ثلاث خصال تعدّد في القرآن الكريم التشنيع عليها ومحاربتها، الأولى: سفك الدماء، وثانيها، الإفساد في الأرض، وثالثها: إرادة العلوّ فيها، فالأولى عدوان على حياة الإنسان، والثانية عدوان على ما به قوام معيشته، والثالثة عدوان على كرامته وحريّته، وهي كلها تستوجب مقاومتها والعمل على إنهائها.

لقد كان فرعون من المفسدين حقًا؛ إذ {علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا}، قام بالتفريق بين الناس، وصنع المجتمع طبقات، طبقة تعلو طبقة، منها فئة يستضعفها هي بنو إسرائيل {يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين}.

غير أن بني إسرائيل أنفسهم الذين نجّاهم الله من بطش فرعون، عاثوا في الأرض فسادًا كذلك، فقتل بعضهم بعضًا، وأخرج بعضهم بعضًا من ديارهم {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}.

إنه ليس بيننا وبين الله تعالى نسب وسبب إلا سبب الإسلام والتزامه، وليس لمجرد أننا نحمل اسم "المسلمون" يقتضي أننا عن سنن الله تعالى وقوانينه القرآنية والكونية بمنجاة، فهل يتجنّب المسلمون اليوم ما وقع فيه بنو إسرائيل من قبل؛ من قتل بعضهم بعضها وتهجير بعضهم بعضًا؟

إن للجهاد معاني متعدّدة؛ وهو مشتق من الجهد، أي بذل غاية الوسع والطاقة، لكنّ المراد بهذا الجهد هو وجه الله تعالى، وليس المصلحة الشخصية، ولا المصلحة الحزبية، ولا مصلحة الشعارات الرنّانة الخادعة.

وأولى تلك المعاني وأحقها باسم الجهاد، هو جهاد النفس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في الله" (صححه الألباني).

غير أن الجهاد قد يقع أيضًا على الحرب والقتال، لكن الحرب والقتال الذي هو جهاد، ليس كل حرب أو قتال، بل هو قتال له صفات مخصوصة، أهمها التزام أخلاق الجهاد وغاياته النبيلة، فالقتال لردّ العدوان هو قتال لغاية نبيلة، والقتال لرفع الاضطهاد والظلم والفساد هو قتال من أجل غاية نبيلة، ليست لأسباب عصبية، ولا حزبية، ولا مصلحية أنانية، بل هي حرب أخلاقية، وإذا كانت كذلك، فالقتل لا يكون فيها إلا ضرورةً، بلا زيادة ولا "تفنّن"، وبهذا نعلم زيف شعارات كثيرين ممن يرفعون راية الجهاد، وهم أبعد الناس عن أخلاق الجهاد، فالتفنّن في القتل، والتلذذ بالذبح ليس من صفات الجهاد ولا المجاهدين؛ لأنه داخل في باب (الانتقام)، وخارج عن المبادئ التي أوضحها الله في كتابه، فالمبدأ الأوّل في القتال هو الغاية النبيلة، فهو قتال في سبيل الله، لا من أجل التشفّي، ولا من أجل التسلّي، ولا من أجل منافع الدنيا، ولا من أجل الولاء للأحزاب والأعراق، وغيرها.

أما المبدأ الثاني من مبادئ الحرب التي تسمّى جهادًا في سبيل الله فهي ألا يُقاتَل إلا المقاتِل المعتدي {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. ومن هنا فالقتال لردّ العدوان، والقتال لنصرة المظلومين، والقتال لصدّ الفاسدين المفسدين، يمكن أن نسمّيه جهادًا، فإذا لجأ من أراد القتال إلى السلم، فعلى المجاهد أن يجنح إلى السلم {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}. ومعنى هذا أن القتال ما هو إلا ردة فعل، إن حاربوا وطغوا وقاتلوا قاتلنا ودافعنا وانتصرنا، وإن سالموا سالمنا.

أما المبدأ الثالث للحرب التي تسمّى جهادًا، فهو عدم تجاوز ضرورات الحرب. فالقتل لا يكون إلا على قدر الضرورة، أما التفنن في القتل بما هو خارج عن حدّ العدل ودفع الظلم يعد اعتداءً وتجاوزًا، والاعتداء والعدوان مشتقان من (عدا)، ويقال: عدا قدرَه أي تجاوزه. وإذًا، فالحرب تكون جهادًا حين تكون في إطار العدل، وهي حرب ذات غاية أخلاقية نبيلة هي دفع الظلم، وردّ العدوان، لا التغلب والقهر واستغلال الخيرات، والعوائد المادّيّة، فتلك كلها تخرجها عن أن تكون "في سبيل الله والمستضعفين".

هذه هي مبادئ الجهاد في القرآن التي يجب على المسلم أن يلتزمها، وإن لم يلتزم بها أعداؤه، قال الإمام القرطبي: "كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم".

ومعنى هذا، أن العدوّ لو مثّل بقتلانا، وقتل نساءنا وأطفالنا، فلا يجوز لنا أن نفعل فيه كما فعل من أجل إيصال الغمّ والحزن إليهم!

تلك على عجالة مبادئ الجهاد في سبيل الله، وإنه لممّا يشوّه هذه الكلمة اليوم ما نراه من مظاهر الطغيان التي يقوم بها طائفة ممن لا خلاق لهم ولا أخلاق، هي أبعد ما تكون عن الجهاد ومبادئه القرآنية.