انحازت ردة الفعل الواسعة في الحكم الشرعي الأخير بسجن أحد خطباء المساجد بعد قذفه ناصر القصبي، إلى جانب القضاء وشكر العدالة. ومن يقرأ هذا الطيف الواسع من التعليق على هذه القصة سيذهب فوراً إلى الاعتقاد بأن هذا المجتمع يغلب عليه اليقين بأن الجهاز القضائي دائماً ما ينحاز إلى جانب من يراه "متديناً" كالدعاة وطلبة العلم والخطباء والأئمة، ولهذا كانت الصدمة واسعة حين نسف القضاء هذا الانطباع وأصدر الحكم في هذه القضية لصالح المتضرر. وأنا أجزم أن بيننا العشرات الذين آثروا السكوت والصمت في قصص مشابهة لقصة ناصر القصبي لأنهم تلبسوا هذا الوهم الكاذب بانحياز القضاء إلى الشكل السيميائي والخلفية المرجعية. وحتى في المرافعات البينية ما بين المواطنين في قصص الخلاف والاختلاف على شؤون حياتهم المختلفة، يلجأ أصحاب القضايا تحت لباس الوهم الخادع بانحياز القضاء إلى اختيار محامين يظنون فيهم تقارباً وتجانساً في المرجعية والسمات مع الجهاز القضائي، ويضطر مثل هؤلاء إلى دفع أتعاب محاماة بالغة التكلفة بسبب هذا الخيار الذي يظنون أنه الوسيلة الأسرع لأخذ حقوقهم عبر طاولة القضاء الشرعي. وهنا أشهد، وللتاريخ، أن لدينا في المجمل نظاما قضائياً شريفاً ونزيهاً وخالياً من هذه الأوهام، وعلينا ألا نستشهد بالنشاز أو الشوارد من القصص التي تحدث في كل نظام قضائي على كوكب البشر.
أعرف بضع حالات مشابهة لقصة ناصر القصبي وفيها تغلب أصحابها على الأوهام والظنون وعلى الانطباع الخاطئ المسبق، وهنا أشك أن "المنتفعين" هم من يساهم في تكريس هذا الانطباع إما للمصلحة المادية أو لتبقى ألسنتهم مفلوتة من الحساب والمحاكمة. لو أننا خفنا من تجربة الذهاب إلى القضاء الشرعي منذ بدايات هذا الطوفان لما وصلنا إلى مثل هذه المفردات في عمق القاموس من التكفير من فوق المنبر ومن قذف أعراض الناس بلا دليل. وعلى الأقل، كنا حمينا الطرف المقابل في هذه القصة من عواقب الحكم الشرعي على ظهر الدنيا ومن الحساب الأهم حين يلقى ربه. وفي هذه القصة، لم ينتصر القضاء للمدعي بل انتصر لكل شرائح المجتمع بمن فيهم المدعى عليه حين أعطاه فسحة واسعة لمراجعة النفس على خطأ ثم إثباته بحكم شرعي، وأنا واثق أنه يعلم جيداً أن أصحاب الفضيلة لن يكتبوا في حيثيات الحكم إلا ما قال الله سبحانه في علاه وما ورد عن المصطفى نبيه. وكثيراً ما كتبنا مع العشرات من مختلف الشرائح والأطياف بضرورة إصدار قانون لتجريم القدح في المعتقد والعرض وكل ما على هذه الشاكلة، لكننا، وفي القصة الأخيرة، اكتشفنا أن القانون موجود بالفعل أمام كل من يحمل قضية واضحة عادلة إلى طاولة القضاء الشرعي، ولعل في هذه القصة درساً جوهرياً لا للمتخاصمين فيها فحسب، بل لكل فرد بيننا في كل قصصنا المختلفة. الدرس الأهم أن نظامنا القضائي انتصر لنفسه ضد الأوهام والظنون وضد تعليب الانطباعات الخاطئة المسبقة.