المعالجات الجزئية للأزمات السياسية المستعصية، لا تؤدي إلى استئصال الأزمات من جذورها، بل تحقق نوعا من التسكين، ما تلبث أن تبرز ثانية، وربما بصورة أعتى وأمر.

وهذا القول يصدق كثيرا على الحرب الدائرة الآن، والتي تشنها الحكومة العراقية لاستعادة مدينة الموصل.

فتنظيم داعش، لم ينزل على المدينة من كوكب آخر، بل هو نتاج واقع موضوعي، والطريقة التي تم فيها احتلال الموصل، من قِبل هذا التنظيم، والسهولة التي تمت فيها، لم يجر تحليلها وتفكيك أسبابها، من قِبل حكام بغداد. والحراك الحكومي الحالي، يقفز فوق الأسباب التي أدت إلى وجود بيئة اجتماعية حاضنة لـ"داعش" بالمدينة، كما في محافظات أخرى، كالأنبار وصلاح الدين وديالى، إضافة إلى بقية محافظة نينوى.

كما أن الحرب التي تشن الآن لاستعادة الموصل، لا يسعفها برنامج سياسي، يعالج واقع الاحتقان الذي مرت به أرض السواد، منذ الاحتلال الأميركي، ولا يزال الحديث عن المصالحة الوطنية في خانة النسيان.

أما العملية السياسية التي قسمت العراق بين الفاسدين والانتهازيين واللصوص، فإنها لا تزال عنوان هوية الحكم في العراق، وأساس "شرعيته"، وما يجرى الآن لا يتعدى مواجهة ظواهر الإرهاب، بحسب الإعلام الرسمي العراقي، ولكنه لا يسبر أسباب تغوله.

ليس ذلك فحسب، بل إن من قرروا الدخول في معركة الموصل، لم يتحسبوا حتى الآن، وفق ما هو معلن، لنتائجها وتداعياتها المحلية والإقليمية، ولم يؤخذ بعين الاعتبار الموقف الدولي، من مستقبل العراق بعد معركة الموصل، وهو مستقبل قاتم، كما تشير سيرورة الانتخابات الأميركية، المتوقع إعلان نتائجها بعد أقل من أسبوعين.

ولكي لا يكون كلامنا إغراقا في التنظير، دعونا نطل باختصار، على بعض المواقف المحلية والإقليمية والدولية، من مستقبل العراق، وتحديد علاقة معركة الموصل بهذه القراءة.

فعلى الصعيد العراقي، هناك سعي محموم إلى تنفيذ قرار التقسيم، باستعادة الحديث عن الفيدرالية التي أقرها الدستور الذي هندس له السفير الأميركي السابق، بول برايمرز.

فرئيس البرلمان العراقي يتحدث عن ضرورة منح المحافظات السنية، والمقصود بها محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالي، استقلالا ذاتيا، على غرار ما حدث للشمال العراقي مع الأكراد.

ولن يجادلنا أحد في أن المنطقة العراقية المعروفة بكردستان باتت خارج سيطرة الدولة العراقية، وأن لها جيشها الخاص، وماليتها الخاصة، وسياستها الخاصة، وليست بحاجة أكثر من بيان تعلن فيه انفصالها عن الوطن الأم.

وإذا ما أخذنا تصريحات رئيس البرلمان العراقي، بشكل جدي، وهو يطالب بمساواة السنّة بالأكراد، فإن ذلك يعني تعبيد الطريق لفصل ما أطلق عليه المحتل الأميركي، بالمثلث السني، وبالتالي تقسيم العراق إلى ثلاث دول.

وعلى الصعيد الإقليمي، فإن لدينا معضلة كبرى في هذا السياق. فالأتراك لا يمانعون في تأسيس دولة سنّية، تشكل منطقة عازلة بين بغداد ودمشق، وتقطع الطريق على إيران، وتحول دون وصولها إلى عمقها الإستراتيجي المتخيل في حوض البحر الأبيض المتوسط.

ولكنها تتردد كثيرا في الموافقة على قيام دولة كردية شمال العراق، لأن ذلك يمس أمنها القومي بشكل مباشر، ويسعر النزعة الانفصالية لدى أكراد تركيا. وإيران من جانبها، لا تمانع في قيام إقليم شيعي في الجنوب، يكون امتدادا طائفيا لسياساتها، لكنها ترى في تأسيس إقليم سنّي، يكون بمثابة المنطقة العازلة بين حلفائها في بغداد ودمشق، ويمنع وصولها إلى جنوب لبنان.

كما أنها لا تنظر بعين الرضا إلى قيام دولة كردية شمال العراق، رغم أنها تتحالف مع شطر كردي، يقوده ورثة جلال الطالباني.

الأميركيون ليسوا في عجلة من أمرهم، وإن كان الكونجرس قد حدد موقفه بوضوح منذ عدة سنوات، حين صدر قرار غير ملزم تقدم به نائب الرئيس الحالي، جوزيف بايدن، نظرا لعدم ملاءمة الظروف آنذاك لتنفيذه.

وإذا ما تسلمت هيلاري كلينتون موقعها الرئاسي في البيت الأبيض، كما تشير جل المؤشرات بحدوثه، فإن دورا مهما ينتظر نائب الرئيس، في قيادة الدبلوماسية الأميركية، بحسب تصريحات السيدة كلينتون.

ويتوقع أن يعمل بايدن بشكل حثيث بعد تسلمه منصب وزير الخارجية، لوضع قرار الكونجرس المؤجل قيد التنفيذ، بعد أن تم تعبيد الطريق لتحقيق ذلك.

لكن المعضلة لن تقف عند هذا الحدث، فالتقسيم سيجر إلى متواليات جديدة، ستكون لها إسقاطاتها المباشرة، في تسعير الحروب الأهلية في العراق، والصراع الإقليمي على امتلاك كيانه. وسيكون الكيان الكردي في حاجة إلى ظهير إقليمي يسنده، وبالمثل سيحتاج حكام الإقليم السني المفترض إلى ظهير إقليمي كي يحميه.

أما إيران، فسيُعزّز دورها أكثر وسط المناطق المتبقية من العراق، والتي ستضم الإقليم الشيعي المتخيل.

أما القوى الدولية، فإنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه التطورات، فالمخزون العراقي الهائل من النفط من شأنه أن يسيل لعاب كل القوى الطامعة في ثروات العراق.

والأميركيون جاهزون لمناصرة هذا الفريق أو ذاك، أو كليهما معا. المهم أن يجرى تدوير هذه الثروات، لتصب في النهاية في خزائنهم.

أما العراقيون، فلهم الله وحده، وسيبقى حالهم على ما هو عليه، إلى أن يعصف مارد الغضب في نفوسهم، بكل عوامل النكوص والتردي، وذلك رهن بتحولات كبرى، وبانقلاب في الفكر السياسي العربي، انقلاب يضع العراق مجددا في موقعه الصحيح، من خريطة الكفاح العربي، وبناء نظام عربي جديد قادر على أن يجعل لهذه الأمة مكانها اللائق بها فوق جغرافيا التحولات الكونية التي تجري من حولها.

وقبل أن يحين موعدها المنشود مع القدر، فليس أمامها سوى مزيد من البراكين والأعاصير.