الأحداث التي تمر سريعا في العراق مؤخرا تكشف اللثام عن كثير من الحقائق الخافية التي كانت تدبر بليل للعراق الجريح وأهله في غفلة من الجميع. وعلى الرغم من ضياع فرص كثيرة لاستيعاب حقيقة الدرس القاسي الذي مر به العراق وأهله، وعلى الرغم من ندرة الفرص وصعوبة التحديات إلا أن التشبث بالأمل الباقي في عراق الأمس الذي تغرب شمسه لتحل مكانها غيوم عراق جديد طائفي ممزق، ما زالت قائمة، ليس من أجل إنقاذ العراق وحسب، لكن أيضا من أجل إنقاذ مستقبل إخوتنا سنة العراق من مصير دموي على أيدي الدولة الصفوية التي ما زالت تحتفظ بروح الحقد القديمة مشتعلة في انتظار أن تطول نيرانها كل كيان وكل كائن يمت للعرب والسنة بصلة.
إن القراءة العابرة للمشهد في العراق الآن تكشف بجلاء عن أن الحاكم الحقيقي للعراق الآن هو قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الجناح العسكري الخارجي للحرس الثوري الإيراني، مسؤول ملف الإرهاب المعني بزعزعة الأمن في الشرق الأوسط، رمز الدولة العميقة في إيران، وتتمثل في المرشد الأعلى علي خامنئي، وبطانته من قادة الحرس الثوري وفيلق القدس وجماعات الضغط المرتبطة به كأنصار حزب الله وعماريون وغيرهم من التيارات المتشددة التي تهيمن على المؤسسات الأساسية في الدولة، كمجلس الخبراء والشورى (البرلمان)، إضافة إلى مجلس صيانة الدستور والقضاء والمؤسسات المالية والاقتصادية الضخمة. هذه إحدى الحقائق المهمة التي تبدو واضحة لأي مبتدئ في الشأن السياسي، فلا يبقى لحيدر العبادي سوى دور رئيس الوزراء في مسرحية هزلية لا يصدقها أحد، فالمعارك الدائرة على الأرض هي التي تقرر من الذي يقول كلمته في العراق، ووجود الحشد الشعبي يقول إن الكلمة العليا في العراق لقاسم سليماني رجل إيران، الذي أعلن قبل أشهر بصراحة وبوضوح في أثناء مواجهات الفلوجة الماضية أن طهران هي التي أسست ميليشيات "الحشد الشعبي" التي تقاتل في العراق، في تصريح كشف عن الطبيعة الطائفية لتلك الميليشيات وولائها التام لإيران، وهو ولاء أكدته في وقت سابق صورة اجتماع سليماني مع قادة الميليشيات قبل معركة الفلوجة آنذاك. وهو الأمر الذي تتعامى عنه الحكومة العراقية القائمة التي بات واضحا أنها تمثل الإرادة والإدارة الإيرانية للمشهد العراقي الآن حين نفت علاقة الحشد الشعبي بإيران، مؤكدة أن هذه الميليشيات تمثل الشعب العراقي بكل مكوناته وطوائفه، وأنها تقاتل تحت مظلة الجيش العراقي.
لكن تصريحات الحكومة آنذاك نفتها تصريحات مقابلة لميليشيات الحشد التي أكدت قيادتها الكاملة للمعركة، حين أعلن هادي العامري، قائد فيلق بدر، أحد فصائل ميليشيات الحشد الشعبي، بدء المرحلة الثانية لمعركة الفلوجة آنذاك، بل قال الرجل إن: "الحشد الشعبي سيدخل الفلوجة، في حال فشل الجيش العراقي في ذلك". ويبقى السؤال: من يقاتل تحت مظلة من يا حكومة العراق، ميليشيات الحشد الإيرانية الانتماء تقاتل تحت مظلة الجيش العراقي، أو الجيش العراقي هو الذي يقاتل تحت مظلتها؟! الممارسات على الأرض تقول إن الفرضية الأخيرة هي الحقيقة، وإن كان للفرضيتين مرارة الزقوم.
وهكذا إذا يبدو المشهد في الموصل اليوم، تماما كما كان في الفلوجة بالأمس القريب، تحركات عسكرية للقضاء على استبدال إرهاب داعش، بإرهاب الحشد الشعبي بقيادة قاسم سليماني مهندس الإرهاب الإيراني في الشرق الأوسط، وصاحب الكلمة العليا في العراق، في غياب تام لأي دور لحكومته الورقية، وكأن قدر العراق أن يراوح مكانه منذ الاحتلال الأميركي، فقراره ليس في يد أبنائه الحقيقيين المخلصين لوحدة الأرض والإنسان في هذا البلد الكريم، فمن الحاكم الأميركي بريمر إلى الحاكم الصفوي قاسم سليماني يتجرع العراق مرارات وراء مرارات، ومن فرط عبثية المشهد أن العراقيين -بل العالم اليوم- أصبح يرى في حكم صدام حسين سابقا صمام الأمان الذي وقف في وجه هذا الطوفان الإيراني الذي يسعى إلى إغراق العراق في محيط من الفوضى. هذه هي الحرية التي جاءت بها الولايات المتحدة للعراقيين، مشروع تقسيم مروع يدق الأبواب، ومشروع تصفية عرقية مذهبية ممنهج على أيدي عناصر الحشد الشعبي لسنة الموصل التي ربما نشهد انفصالها قريبا ضمن مسلسل انفصال كبير يراد للعراق.
أعلم تماما أن أي نداء يوجه إلى حكام بغداد الجدد لا فائدة ترجى منه، فالأمر ليس بيد القوم، ولا صلاحيات تذكر لهم في مثل هذه الشؤون، فهم ليسوا سوى موظفين لدى الدولة الصفوية، يأتمرون بأمر الحاكم الفعلي قاسم سليماني، العبادي وغيره فليسوا سوى رجال إيران الذي غذتهم وسمنتهم لهذا اليوم ولهذا الدور، وهو ليس أفضل حالا من مواطنه عبدالعزيز الحكيم الذي قال في تصريح مسجل تناقلته وسائل إعلام عالمية: "يجب على العراق أن يدفع تعويضات لإيران عن سنوات الحرب العراقية الإيرانية في زمن صدام". فأي عراقي بل أي مواطن هذا الذي يقدم مصلحة دولة أخرى على مصلحة وطنه، من الواضح أنهم جميعا رجال إيران في العراق لا أكثر.
لذا أوجه ندائي إلى الراشدين العقلاء الحكماء من إخوتنا أبناء الشعب العراقي سنة وشيعة، وإلى جميع الطوائف العراقية: قدموا مصلحة العراق ووحدته على كل خلاف قبل فوات الأوان.