كثير من المعلومات التي يتداولها الناس عبر "السوشيال ميديا" غير حقيقية، ومع ذلك يشيع بعضها ويصل إلى الترند العالمي دون توضيح أو رد من الجهات المعنية، والمشكلة أن ذلك لا يسيء إلى الأشخاص وحدهم بقدر ما يسيء إلى الحكومة حين يكون المعني بالمعلومة شخصية تكتسب قيمتها من المنصب الذي تشغله، ففي الأسبوع الماضي غصَّت وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومة لست أدري عن صحتها أو خطئها، وأغلب الظن أنها خاطئة عندما شاع بين الناس: أن ابن وزير الخدمة المدنية معين على بند استقطاب الكفاءات براتب مقداره 21600 ريال على الرغم من أنه حديث التخرج! والغريب في الموضوع أنه حتى كتابة هذا المقال لم يصدر تعليق أو نفي من الوزير أو أي جهة مختصة أخرى! وبصراحة أستبعد صحة هذه المعلومة لعدم معقوليتها، ولما يترتب عليها من إجراءات قانونية في حال صحتها، خاصة أن وزير الخدمة المدنية دأب على تسكيت الناس بالنظام، فهو القائل لأحد المواطنين في أثناء استقباله لهم: "أنا بنت أختي صار لها خمس سنوات ومعاقة وعندها 4 دبلومات ما حصلت على شيء، النظام نظام".
لا شيء يطلبه الناس أكثر من النظام، وأن تكون فرصهم في التوظيف والأخذ والعطاء متساوية، لذا فإني لن أتوقف عند هذه القصة طويلاً، ما دام أن معالي وزير الخدمة المدنية يدرك أهمية أن يكون النظام هو معيار التفاضل بين الناس، وسأتجاوز هذه التفريعات إلى أصل الحكاية وبداية نشأتها في الاستضافة الشهيرة لبعض الوزراء قبل أيام، وما أطلقه الوزير من تصريحات صادمة سارت بها الركبان، فكان نصيبها من النقاش والجدل والبحث أكثر من غيرها، حتى ضاعت بين زحمتها معلومات مهمة لم يفطن لها الناس، مثل عدد البدلات الـ(156)، فمن اللافت أن أغلب ما نعرفه من بدلات أو مكافآت قد تم إلغاؤها تقريباً في حين أن معالي وزير الخدمة المدنية يخبرنا أنه تم الإبقاء على (105) بدلات ومكافآت! فلا ندري عن نوعية هذه البدلات المبقاة، ومَن المستفيدون منها ومسوغات الإبقاء عليها، فإني أخشى أن تكون هذه البدلات والمكافآت من نوع "استقطاب الكفاءات" التي يمنحها من لا يملك لمن لا يستحق!
كان يمكن لوزير الخدمة المدنية الأستاذ خالد العرج أن يقول رأيه في مسألة البدلات والعلاوات وضعف الإنتاجية دون أن يثير تلك العاصفة من الاحتجاج والسخرية لو أنه تكلم بشكل موزون يحفظ للناس أقدارهم، فإنه مع اعترافي بوجود نقص في الإنتاجية إلا أن هذا النقص ليس بذات القدر الذي حاول الوزير تضخيمه لتبرير القرارات، عندما قال إن إنتاجية الموظفين ساعة واحدة فقط! فمن وجهة نظري أن المشكلة التي أثارها الوزير تكمن في أمرين، أولهما:
تقدير هذا النقص، فهو قد أتى برقم صادم يمكن نقضه بسهولة، حتى لو أرجعه إلى دراسات (موثقة)! فكثير من الخدمات التي تنفذها الوزارات حالياً تتم بشكل إلكتروني، ولا يجد الناس مواعيد للحجز لفترات تصل في بعض الأوقات إلى أشهر، لأن النظام غير قادر على استيعاب الأعداد الكبيرة من المراجعين، بمعنى أن الموظفين مجبرون على العمل بكامل طاقتهم، هذا في حال الموظفين العاديين، أما في القطاعات ذات الطابع المقولب والتي يأخذ فيها العمل شكلاً محدداً كالتعليم، فيمكننا إثبات خطأ المعلومة بمعرفة أنصبة المعلمين من الحصص والتي هي في المتوسط لا تقل عن 3 ساعات في الفصول وحدها عدا إجراءات التصحيح والإشراف اليومي وحصص الانتظار والتحضير في غير أوقات الدوام. المشكلة الثانية أن ضعف الإنتاجية يُعزَى بالأساس إلى السوء الموجود في لائحة تقويم الموظفين الصادرة من وزارة الخدمة المدنية، سواء من ناحية عناصرها الفضفاضة غير القابلة للقياس، أو من ناحية الإجراءات المترتبة عليها، إضافة إلى عدم امتلاك القادة صلاحيات تمكنهم من إجبار الناس على العمل والانضباط، فالعلاوة السنوية يمكن الحصول عليها بسهولة مهما كانت إنتاجية الموظف وتقديره الوظيفي، ولو افترضنا أن معلمين اثنين تعيَّنا في نفس السنة، أحدهما منتج جداً والثاني مهمل جداً، فإنهما بعد 10 سنوات من التعيين سيحصلان على نفس الراتب! بمعنى أن المحسن لا يقال له أحسنت، والمسيء لا يقال له أسأت، وأي عمل لا يقوم على هذا الأساس هو عمل فاشل ستكون إنتاجيته متدنية، وهو ما حاولت وزارة الخدمة المدنية معالجته بشكل حاد عبر لائحتها الجديدة، دون إدراك منها أن الانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بشكل مفاجئ ستترتب عليه عواقب وخيمة! فنحن لا نخشى التغيير بقدر خشيتنا من عشوائيته والاستعجال فيه! إضافة إلى أن القادة في الميدان التربوي لا يحصلون على أي مقابل عند تقلدهم مهام قيادية، علاوة على أن التخصصات النادرة لا يحصل أصحابها على أي مزايا مالية، ولذلك فالقصور في الإنتاجية تتحمله وزارة الخدمة المدنية أكثر من أي جهة أخرى، وكل ما حاول وزير الخدمة المدنية وصم الموظفين السعوديين به هو في الواقع توبيخ لأنظمة وزارته، ودليل على ترهلها وسوء تخطيطها، وأكبر دليل على ذلك أن إنتاجية ذات الموظفين في القطاع الخاص مرتفعة جداً مقارنة بالقطاع الحكومي، أي أن ضعف الإنتاجية يعود بالأساس إلى قوة النظام وحسن صياغته، ولا علاقة له بجينات الموظف سواء كان سعودياً أو غير سعودي.