منذ أن أعلن الديوان الملكي عن خبر تعرض خادم الحرمين لوعكة صحية أجرى على إثرها بعض الفحوصات الطبية، والشعب السعودي يعيش في حالة من الانزعاج العميق، ولا يتوقف واحدهم عن رفع يديه إلى السماء، راجياً من الله أن يمد في عمر أبي متعب وأن يمتعه بالصحة والعافية. ثم نزل على القلوب خبر مثل المطر، ظهوره على شاشات التلفزة في الثلاثاء الماضي وتطمينه الناس بأنه بصحة جيدة، فأعاد لنا بذلك، الإيمان بشيء لا تراه العيون ولا تفهمه العقول، ولكن تشعر به القلوب في الصدور، إنه ليس شيئا خفياً، بل شيء حقيقي نشعر به ولا نراه في عالمنا المادي المحسوس.

من غرائب الصدف، أنني كنت أنا وصاحب لي قبيل ظهور خادم الحرمين على الشاشة، نتحدث بتشاؤم شديد وانزعاج عميق، عن حياتنا في هذا الزمان، وكيف أن الناس قد غرقوا في الحياة المادية وملذاتها وازدحامها، حتى إنك ما عدت تشعر بأي قيمة للعلاقات البشرية بعامة، ما عدت ترى صاحباً يسأل عن صاحبه ولا خليلاً عن خليله، فلا أحد يبالي بأحد ولا أحد يشعر بأحد، فالبشر في زماننا أصابت علاقاتهم هشاشة غريبة شنيعة و برود كبرود ريح الشمال، هشاشة أسوأ من مرض هشاشة العظام لدى الأطفال، أصبحت العلاقات الإنسانية تشبه الأشباح، لا تدري هل تراها أم لا تراها، أصاب الناس تبلد وقسوة في القلب وضعف في روابطهم الاجتماعية، وصار عندهم ضعف إيمان بالعاطفة، وركنوا إلى الحسابات المادية وجداول الضرب، فأصبحت تشعر وأنت تبدأ علاقة صداقة أن من يجلس أمامك يستخدم الآلة الحاسبة لكي يرى هل هذه الصداقة مجدية أم لا تستحق الوقت المبذول فيها والمال الذي سينفق عليها. لم تعد عندنا تلك الرابطة التي كان يشعر بها آباؤنا وأجدادنا، وجلسنا أنا وصاحبي نتذكر وقتاً كان الرجل فيه يأتي من شمال المملكة ليزور صديقاً له في نجد، فيستقبله الأخير بالترحاب والإكرام وذبح الذبائح وتفريغ نفسه بشكل كامل لقضاء حوائج صاحبه حتى يعود إلى أهله معززاً مكرماً، بينما اليوم يأتيك الصاحب من بُعدٍ وحاجة، فيكتفي كثيرون منا بمجرد إغلاق الجوال أو عدم الرد بكل برود الكون وكأن الآخر ليس بموجود، فمنطق أهل هذا الزمان يقول: الصاحب يأتي بدلاً منه صاحب آخر. إلا أن صحبة هؤلاء الناس هشة كهشاشة زمانهم وسرعان ما تنكسر، بل قد تتحول لعداوة لأبسط وأتفه الأسباب، لقد صارت الصلة بين الناس كصلة طلبة الجامعة أيام نظام الساعات، فهذا الفصل لك زميل يرافقك في كل محاضراتك فيصبح صاحبك، والفصل الذي يليه لا يكون معك في أي من تلك المحاضرات، فينقطع حتى السلام. لم يحدث هذا، إلا بسبب هذه الحياة المدنية البغيضة التي تحول الإنسان إلى مخلوق عديم الإحساس بليد المشاعر "عابر في زمان عابر" لا ذاكرة ولا ارتباط ولا التزام، وسبب كل ذلك هو أنه ارتد وكفر بالمحبة التي لا تنتظر جزاء ولا شكوراً.

في هذه اللحظات المتشائمة، ظهر محيا خادم الحرمين الشريفين وتحدث بشفافيته وتلقائيته المعهودة، فبدد كل هذا المشهد الذي كنا نغرق فيه وطرد قتامته، وبرغم التعب الذي كان يكسو صوته، راح يشدو قصيدة في الحب. نوادر من البشر هم من يستطيعون هذا. فقط من يملك قوة كقوة عبدالله بن عبدالعزيز وثقته، وهذه الكاريزما النادرة، هذه القدرة الباهرة على بث المحبة والرحمة والتسامح، كما تبث رائحة العود طيب الرائحة فوق رؤوس الحاضرين، لقد خرج علينا عبدالله ليطمئن قلقنا على صحته بقوله: (أنا بخير، ما دمتم بخير) فعاد لنا الإيمان العميق بالحب الذي لا تراه العيون ولا يمكن أن تتحمله كل حسابات بنوك العالم، عاد لنا الإيمان بأن الدنيا ما زالت بخير، ما دام فيها قلب كقلب عبدالله.

واليوم يغادرنا الملك في رحلة علاجية إلى أمريكا محفوفاً بدعوات الملايين من شعبه أن يعود سالماً معافى.