يطغى الإنسان ويستكبر حين يشعر أنه مستغنٍ، وأنه قوي، فيظلم ويجهل ويعتدي (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). الاستغناء اكتفاء، وحين يظن الإنسان أنه مكتفٍ بما عنده وغير محتاج، ينسى حقيقته الأصيلة اللازمة، ينسى أنه ضعيف، ضعيف حقا، وأنه محتاج دائما مهما ظن أنه قوي، ومهما توهم أنه غني.
بنى الإنسان الحضارات المتتالية، مسقية بشلالات الدم، والاعتداء على الأبرياء، تفنن في صنع الأسلحة الفتاكة، ولا يزال يتفنن في صناعتها، حتى إن قنبلة واحدة قادرة على إفناء مدينة.
أهلك من بني نوعه ملايين الملايين، على مر العصور. غير أنه –ويا للمفارقة– يقع طريح فراشه أياما متتاليات أو سنين متتابعات، بجُسيمٍ صغير لا يُرى إلا بالميكروسكوبات، ثم في النهاية يموت، ويفنى، وكأنه لم يكن! كأنه هباءة هبت بها نسمة، ثم فنيت وتلاشت.
مصيبة الإنسان الذي (خُلِق ضعيفا)، أنه ينسى أنه ضعيف، ويغفل عن حقيقته هذه -أو يتغافل- فيظلم عباد الله ويطغى، فيظن أن دمه دم فريد، وأن عنصره منقطع النظير، وأن ثقافته هي الثقافة الوحيدة، فيحمله هذا على تحقير غيره، وعلى حرمانه من حق الوجود، فضلا عن التمتع بخيرات الأرض، باسم القومية، أو العنصرية، أو المذهب أو الطائفة، أو القبيلة. وسلوا التاريخ الماضي والحاضر، فيم قامت كل تلك المجازر؟ وفيم انتهكت الحرمات؟ وفيم كانت المظالم إلا من أجل الطغيان والأطماع وإظهار القوة والبطش.
حين يذكر الإنسان أنه ضعيف، يعلم أنه ليس أولى بالحياة ممن سواه، وليس أولى بحق الوجود من غيره، يرحم الضعفاء مثله، ويعضدهم، ويسندهم. يطعم الجائع، ويكسو العاري، ويكرم الضيف، ويكفل اليتيم، ويعين الأرملة، ويساعد الشيخ، ويعترف بحق غيره في الوجود، ويتعلم ممن سواه. لكنه حين ينسى ذلك كله يرى الرحمة خوَرا في الطبيعة، كما قال أحد المجرمين ذات مرة، ويرى أن الحوار مظهرا لإظهار القوة، وأن الاكتشاف والعلم وسيلة لبسط السيطرة.
أرسل الله الرسل ليذكروا الإنسان أنه ضعيف، وأن فوقه الله رب العالمين، القوي المتين، واهب القدرة، ومانح القوة، ومسدي النعَم. فيعبده، ويذل له ويخضع، ويعلم أن (فوق كل ذي علم عليم)، فيستمع إلى الآخر، لا ليطرحه أرضا، ويبطش به معرفيا، و"ينسف جبهته"، كما يقال في التعبيرات المعاصرة، بل ليصل وإياه إلى المعرفة، فينتفع بها هو والآخرون.
حين يشعر الإنسان أنه ضعيف -مهما كانت قوته مقارنة ببني نوعه- يعلم أن قوته هذه عارية مؤداة، وأن الضعف فيه أصيل، والقوة عرض زائل، فلا يصرفها إلا لنفع بني نوعه الضعفاء، فإذا تعلم تعلم لينفع الناس، وإذا اكتشف اكتشف لينفع الناس، وإذا تسلح تسلح ليدافع عن المظلومين، وإذا اغتنى أنفق على المحرومين.
كانت مشكلة فرعون وكل فرعون على وجه الأرض، أنه نسي ضعفه، وغرته قوته، وطوح به جبروته، فادعى كذبا وزورا أن الأنهار تجري من تحته، فجرَى النهر من فوقه! وغرق في اليم مذكورا باللعنة، وأصبح للناس عظة وعبرة.
وإن الله تعالى ليحب عباده الذين يشعرون بضعفهم فيتكلون عليه، ويلجؤون إليه، به يستعيذون، وإياه يعبدون، وإليه يجأرون. حتى الذنب يرتكبه العبد عن ضعفٍ وجهالة، ثم يتبعه التوبة؛ أقرب إلى المغفرة من العبد يتمادى في الغفلة، ويبارز ربه بالعظائم كبرا وعنادا وجحودا.
نحن بحاجة إلى الإنسان الضعيف، الإنسان الذي يشعر أن ما عنده لا يكفيه، وأنه بحاجة إلى الآخرين، بدلا من أن يشعر أنه يجب أن يتخلص منهم، وأن يفنيهم، وأن يطغى عليهم.
نحن بحاجة إلى الإنسان الضعيف الذي يشعر بالتواضع، وأنه لم يبلغ الكمال قط، ولن يبلغه أبدا، فيسعى كل السعي إلى تقويم أخلاقه، ومحاسبة نفسه.
نحن بحاجة إلى الإنسان الضعيف الذي يحاور ليفهَم، لا يحاور لينتصر، والذي يفتح ذراعيه للمعرفة من أي جهةٍ أقبلَت، والذي يعلم أنه مهما بلغ من حكمة فإنه لا يزال يتعلم، فيفيد من تجارب الأمم، وخبرات المجتمعات، ويعطي الآخرين مما عنده.
نحن بحاجة إلى الإنسان الضعيف الذي يخضع للحق، وللعدالة، ويرد الحقوق إلى أصحابها، ويدرك أن الناس من جنس واحد، وأن الضعيف يُضام حين يكون مقهورا لنظيره.
نحن بحاجة إلى الإنسان الضعيف الذي لا يتسلط على ما عند غيره من خيرات طمعا ورغبة في القوة وظلم الآخرين، بل يتعاون مع الآخرين على ما ينفع النوع الإنساني، ويرتقي به.
أيها الظان أنك القوي البطاش، عما قريب تزول، وتوارى التراب، ولن يبقى لك إلا ما يذكرك به الناس، خيرا أو شرا. أيها الظان أنك القوي البطاش، ما أنت إلا كائن ضعيف، فاخضع لله والحق وسلم بضعفك "وخُلِق الإنسان ضعيفا).