ليست المرة الأولى التي يدفع فيها أهل جدة ثمن طيبتهم وسعة صدورهم غالياً استهانة بهم واستيلاءً على حقوقهم ومرافقهم العامة. جدة عروس البحر الأحمر التي نحبها جميعاً، ولنا فيها جميعاً ذكريات لا تنسى.. جدة مدينة التعايش الكبيرة التي تقدم واحداً من أروع النماذج في التعايش الإنساني وانصهار الأعراق والثقافات، يستغل بعضهم هذه الميزة الفريدة ويستثمرونها في التسلل إلى أغراض غير نظيفة تتنافى مع قيم الشفافية والأمانة، حين يستولون على مرافق عامة للمواطنين بغير وجه حق، وفي خلسة من الدولة والأنظمة، بعضهم افتضح أمرهم، وبعضهم أعرفه جيداً، حتى الآن ما زالت ورقة التوت لم تسقط بعد ليلقى مصيره المحتوم ويفتضح أمره على رؤوس الأشهاد.
لك الله يا جدة الطيبة.. أَهلك طيبون مسالمون يمتلكون ناصية الطرفة ويتحلون بخفة ظلالهم وسعة صدورهم، يقبلون الرأي مهما كان ولا يتعصبون لرأي معين، يتقبلون جميع شعوب الأرض، فعندما تكون في جدة لا تشعر بغربة على الإطلاق، فالجميع هناك أهلك ومحبوك، فهل هذا ما أغرى بها بعضهم؟ مواطن يضم شارعين من شوارعها، ويقيم عليهما منشآت استثمارية دون وجه حق، ثم تبقى جريمته طي الكتمان، حتى يشاء الله افتضاح أمره عندما رفع الإيجار على المستأجرين، فما كان منهم نكاية فيه، إلا أن أبلغوا عن فعلته؛ لأن القوم "دافنينه سوا" كما يقول إخوتنا في مصر، فلما اختلف السارقان، افتضح أمر المسروق، شارعان بالتمام والكمال! شارعان يا جدة.. ومواطن آخر يضم شارعاً آخر إلى بيته، ثم يخرج علينا في وسائل الإعلام ليتحدث عن "دلع المواطنين".. من أين يأتيهم الدلع يا رجل وقد أغلقت في وجوههم شوارع وطنهم التي ضممتها إلى حوزة أملاكك؟ هل أبقيت لهم شيئاً "يتدلعون" به؟!.. أين أنت يا حمرة الخجل؟! ورجل أعمال آخر يظهر في وسائل الإعلام ليرمي المواطنين بالاستهتار والخمول والكسل وعدم الرغبة في العمل، ثم يتبين بالبحث في سجلات شركاته أنها تؤوي آلاف العمال الأجانب! بدلاً من أن تؤوي أبناء وطنه الذين يثبط من هممهم بأحاديثه المحبطة. نماذج عجيبة وغريبة وفاضحة لرجال أعمال تجردوا من الخجل، ووقفوا يرمون الناس بتهم باطلة، وحقوق الناس في "كروشهم"، فصدق فيهم قول القائل "رمتني بدائها وانسلت".
ولعلي أزيدكم من الشعر بيتاً، عن واقعة مشابهة من دفتر الذاكرة، ما تزال قائمة حتى الآن، فأيام كنت على رأس العمل في وزارة الصحة، علمت أن أحد رجال الأعمال استولى على أرض للوزارة في باب شريف وسط جدة، وقد استغل جزءاً منها ليتخذ منه مواقف يؤجرها على المواطنين لعدة سنوات، في حين خصص الجزء الآخر ليقيم عليه مبنى مكوناً من عدة طوابق.. الرجل يعمل باطمئنان "ما شاء الله" ويقسم أراضي الدولة، يؤجر هذه ويعمِّر تلك كما لو كانت إرثاً خالصاً تركه له أجداده. وما أعلمه أن هذه المنشآت ما زالت قائمة على الأرض، وما زالت في حوزة الرجل -حتى الآن- يتصرف فيها كما يتصرف المرء في أملاكه الخاصة تماماً. أما الأرض التي اتخذ منها مواقف للسيارات فحين طلبنا منه تسليمها بالرفق رفض، فلم تجدِ معه محاولات "حب الخشوم" والوساطات إيثاراً للسلامة وعلى أمل أن نحل المشكلة بشكل ودي، ورد حق الدولة من دون الدخول في منازعات مع هذا أو ذاك حتى لا نعطل أنفسنا ونعطل المشاريع ونضيع الوقت في المنازعات القضائية، وأمام رفض الرجل، وبعد أن فشلت معه جميع المحاولات، ما كان مني إلا أن اتفقت مع مدير عام الشؤون الصحية في جدة على أن نسترد أرض الوزارة بالقوة، وكانت الخطة أن نضع داخلها سيارات الوزارة، وبالفعل ملأنا الأرض بسيارات الوزارة، واتخذناها مواقف لنا، وأغلقنا المكان، عند ذلك استسلم للأمر الواقع، وجاءنا طالباً تسليم الأرض، على أساس أنه رجل كريم جنح للسلم وآثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، أو ربما على أساس أن أرض الوزارة دخلت بالخطأ في أملاكه فما كان من الرجل المنصف الذي لا يأكل حقاً لأحد إلا أن جاء ليعيد الحق إلى أصحابه.. أمر عجيب حقاً.. كم يحار المرء في شأن أمثال هؤلاء، كيف يضعون رؤوسهم على الوسائد وينامون؟ كيف يفكرون؟ بمَ يبررون الاستيلاء على أملاك الدولة ومرافقها التي هي حق للجميع هكذا من دون وجه حق؟! والعجيب أن أحدهم لا يجرؤ أن يجور على متر من أرض جار له لأنه يعلم أنه سيدفع الثمن غالياً، ثم تجده يسطو على شوارع الدولة.. ولله في خلقه شؤون.