تعتبر المخاطر حلقة الوصل بين احتمال وقوع الحدث والآثار المترتبة على حدوثه، لذا حثتنا جميع الأديان على مواجهة المخاطر وإدارتها وتتبع أحداثها والتصدي لنتائجها، سواء كان ذلك من خلال تجنبها أو تخفيف وطأتها أو نقلها إلى جهة أخرى.
القاعدة الاقتصادية الأولى في إدارة المخاطر حددها القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: "يوسف أيّها الصّدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لّعلّي أرجع إلى النّاس لعلّهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتّم فذروه في سنبله إلاّ قليلاً مّمّا تأكلون. ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلاّ قليلاً مّمّا تحصنون. ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث النّاس وفيه يعصرون".
هذه القاعدة الاقتصادية يطالب بها البنك الدولي اليوم في تقاريره عن التنمية، ويشجع جميع دول العالم على ضرورة إنشاء أجهزتها المختصة في هذا المجال بكافة مؤسساتها، وبناء قدراتها لكي تتمكن من إدارة المخاطر المحدقة بها والصمود أمامها، مؤكدا على أن: "عملية مواجهة المخاطر، والتأهب لها والتكيف مع آثارها، توفر فرصة لا غنى عنها لتحقيق النمو والازدهار والتنمية لكافة الشعوب". وجاءت هذه التقارير لتؤكد أيضا على: "ضرورة إدارة المخاطر كجزء مهم من التنمية البشرية، لتتحول الاستثمارات في هذه الإدارة من مرحلة التجاهل، كما لو كانت نوعا من العبء الإضافي الذي تتحمله الدولة على مضض، إلى كونها جزءا لا يتجزأ من التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي". وبناء عليه تحذر تقارير البنك الدولي من أن: "مخاطر التراخي في إدارة المخاطر قد تكون الخيار الأسوأ على الإطلاق، والحل لا يكمن في رفض التغيير من أجل تفادي الخطر، بل في التأهب للفرص والمخاطر التي ينطوي عليها التغيير".
ومن هذا المنطلق، قامت السلطات العليا في معظم حكومات العالم بإنشاء أجهزة متخصصة لإدارة المخاطر وتوظيف أهدافها للحد من الخسائر المحتملة إلى أدنى حد ممكن، وتأمين عدم تكرار حدوثها والسيطرة عليها قبل تفاقمها من خلال الرقابة الفورية على الأحداث، والحد من خسائرها قبل أو بعد حدوثها. وتأكيدا على أهمية تحديد العلاج النوعي لكل نوع من أنواع المخاطر وعلى جميع مستوياتها، بادرت جميع البنوك والمصارف في كافة أرجاء المعمورة بتأسيس أجهزتها المتخصصة في إدارة المخاطر لإحكام الرقابة والسيطرة على أنشطتها وأعمالها التي ترتبط أصولها بالقروض والسندات والتسهيلات الائتمانية وغيرها من أدوات الاستثمار، للمحافظة على هذه الأصول وحماية مصالح المودعين والدائنين والمستثمرين في سنداتها.
المملكة تمر اليوم بمرحلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن اعتمادها المطلق طيلة العقود الأربعة الماضية على النفط كسلعة وحيدة للدخل. ومع أن هذه السلعة لا زالت تعتبر المصدر الأكبر قبولا وتداولا للطاقة على المستوى الدولي، ليفوق الاستهلاك العالمي من هذه السوائل 86 مليون برميل يوميا وسيصل إلى 92 مليونا في عام 2020، ثم 104 ملايين في عام 2030، إلا أن تقلب أسعار النفط في الأسواق العالمية أخل بميزان المدفوعات في السوق السعودي ودفع المملكة إلى تبني سياسة تقشفية محكمة كردة فعل طبيعية لانخفاض الدخل.
لذا أصبح من الضروري قيام المملكة بإنشاء أجهزتها المتخصصة في إدارة المخاطر للتصدي لها وتحييد تداعياتها ومعالجة نتائجها من خلال استقراء اتجاهاتها وإسقاط مؤشراتها. ويتم ذلك بواسطة تكوين فريق من الخبراء المختصين في المجالات المختلفة، ليقوموا بعمليات العصف الذهني مع خبراء النفط لاستقراء أثر مستويات الإنتاج على نسبة العرض والطلب وحجم المخزون العالمي، وليسهموا مع خبراء الاقتصاد باستشراف نتائج تطور الأسعار على حصص الأسواق وعوائد التصدير، وليدرسوا مع خبراء التقنية آثار تطوير الطاقات البديلة على مستقبل النفط. وبناء على المعطيات والمؤشرات يقوم خبراء إدارة المخاطر بوضع البدائل لكافة السيناريوهات وتقييم النتائج لمختلف الاحتمالات.
ولعل أفضل مثل واقعي على تفاعل الدول المتقدمة والنامية مع قضية التغير المناخي هو توقيع 195 دولة على اتفاقية باريس في 12 ديسمبر 2015، التي تهدف إلى احتواء حرارة المناخ لأقل من 2 درجة، وتسخير 100 مليار دولار أميركي كمساعدات مناخية للدول النامية سنويا للحد من وطأة التغير المناخي، وتزويدها بالأدوات والخبرات والآليات اللازمة لدراسة الآثار المحتملة لمخاطر الكوارث على قراراتها الاستثمارية. فمنذ الثمانينات بدأت خسائر الكوارث الطبيعية تأخذ اتجاها متصاعدا في مختلف دول العالم، ليبلغ إجمالي الخسائر الناجمة عنها اليوم بنحو 3.8 تريليونات دولار أميركي. وكان أكثرها وطأة الكوارث المائية والمناخية، التي تسببت في 74%من هذه الخسائر، وشكلت 78% من إجمالي الكوارث، وسقط بسببها 61% من القتلى.
مؤسسة"إي أي يو" المتخصصة في تصنيف المخاطر الأمنية والسياسية الأكثر خطرا على الاقتصاد العالمي، صنفت في العام الماضي انهيار سوق الأسهم الصيني وانخفاض أسعار السلع الأولية على رأس هذه المخاطر، وجاء التهديد المتنامي للإرهاب وتأثيره على استقرار الاقتصاد العالمي في المركز الثاني، تلاه تباين السياسات النقدية التي قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات التقلب في سوق العملات، بينما جاءت التوترات الجيوسياسية في العالم في المرتبة الرابعة كأكثر المخاطر تأثيرا على الاقتصاد العالمي.
لتفادي المخاطر المحدقة باقتصادنا الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي علينا إنشاء جهاز إدارة المخاطر بأسرع وقت.