من الخطأ تصوير السواد الأعظم من الناس على أنهم منزعجون من الرؤية 2030، إنهم بالأحرى سينزعجون أكثر فيما لو بقي الوضع على ما كان عليه من الجمود والركود والاعتماد على النفط مصدرا وحيدا للدخل. لكن ذلك لا يعني أنهم متفقون كليا مع وسائل تحقيق الرؤية، بل على العكس من ذلك، فإنهم يتوجسون خوفا من بداية تطبيقها، ويضعون أيديهم على قلوبهم مع كل قرار متعلق بها، فهي من الناحية النظرية عظيمة تستحق الصبر والتضحية، لكنها من الناحية العملية ليست واضحة، بسبب أن المنطق الذي يتحدث به بعض وزرائنا هو أبعد ما يكون عن الإقناع، ويشبه تماما ذلك الذي قرأ في جريدة أن التدخين يسبب السرطان فقرر الامتناع عن قراءة الجرائد!.
فمن يتحدثون الآن عن "ترف المشاريع" والفساد والهدر المالي وسوء التخطيط، ويعِدوننا بـ"الإفلاس بعد 3 سنوات" إذا لم نستجب لطريقتهم ونرضى بخريطة الطريق التي رسموها لنا، هم أنفسهم من رسموا خططنا السابقة القريبة، وهم أنفسهم من أقروا تلك المشاريع وحددوا ميزانياتها، وقالوا عن اقتصادنا إنه قوي ومتين.
فعندما كتب الدكتور عبدالعزيز الدخيل في صحيفة الشرق مقالا عنوانه "لكي لا نقع في الهاوية"، في 10 مارس 2014، لم يعجب قوله بعض المسؤولين، رغم دعوته إلى تنويع مصادر الدخل، وتحذيره من أن يكون نصيب الطبقة الفقيرة من الحاضر الموسوم بالرفاهية المادية قليلا جدا، ومن المستقبل المشكوك في رفاهيته كبيرا جدا، ومع أنه لم يفعل أكثر من الدعوة إلى ما يدعون إليه الآن عندما قال "يرى المسؤولون في المملكة العربية السعودية أننا نعيش عصرا اقتصاديا ذهبيا، عصرا يحسدنا عليه كثير من شعوب العالم. هذه الرؤية العظيمة لواقعنا الاقتصادي عندما أخضعها لقانون وقواعد الاستدامة، تسقط كل مقوماتها وتفقد كل بريقها، وتتحول إلى غطاء من الصفيح المطلي بماء ذهب من عيار منخفض جدا".
واقعنا يقول:
– إنتاجنا الفردي والحكومي ضعيف جدا.
– إنفاقنا الاستهلاكي كبير جدا.
– أعدادنا تتزايد بنسب فوق العالية.
– مياهنا شحيحة وضئيلة جدا.
– نزيف مستمر للثروة البترولية لإشباع حاجة الغرب الإنتاجية وإشباع حاجاتنا الاستهلاكية. بترول وغاز مشكوك في مصيرهما الجيولوجي وأثمانهما المالية المستقبلية.
– الفساد الإداري والمالي جيد جدا!
– الشفافية والمساءلة ضعيفة جدا.
– العمالة الأجنبية كثيرة جدا تخدمنا وتنتج عنا.
– نظام تعليم يترنح، وعقول أجيال تُهدر، ونظام سعودة يواصل هدر عقول الأجيال، ويكمل من ضياع العمر ما أضاعه نظام التعليم.
إن رؤية 2030 لا يمكن أن تحقق أهدافها ما لم تقم على عقول وطنية مخلصة، من أمثال الدكتور الدخيل. عقول تتذكر الماضي وتدرك الحاضر وتتنبأ بالمستقبل. تتمتع بقدر كبير من الخبرة والدراية والعلم والصراحة. تقول ما تؤمن به حقا لا ما يريد المسؤول أن يسمعه.
وبما أن الأمير محمد بن سلمان، أعلن في رؤيته الحرب على الفساد، ودعا إلى تقليم أظفار البيروقراطية، فإني أرجو أن يحسن اختيار العاملين معه في رؤيته، وأن يعيد النظر في كل ما يتعارض معها من قوانين وأنظمة، خصوصا تلك التي تحمي الفاسدين أكثر من أي شيء آخر، وما يتعلق منها بحرية الرأي والتعبير، حتى لا يحتاج الإنسان إلى تأكيد وطنيته وولائه بعد كل رأي صريح يطرحه، كما فعل أحد الكُتاب المعروفين قبل أيام عندما علّق على أحد القرارات عبر "السوشيال ميديا"، ثم حلف أنه يحب وطنه ويدين بالولاء التام لقيادته، مع أن الوطنية الناقصة وحدها التي تحتاج إلى إثبات!.
لن أكذب عليكم وأقول، إني توقعت من الظهور الأول لبعض الوزراء أن تكون لديهم إجابات مقنعة لما حدث من إجراءات قبل أسابيع، لكني لم أتوقع أن تكون إجاباتهم على هذه الدرجة من الشتات والتردد وعدم الإقناع، فمما أخبرنا به "لقاء الثامنة" أنه حين اكتشف وزراؤنا أن هناك فسادا وهدرا ماليا وسوء تخطيط، قرروا معاقبة المواطن برفع الدعم وإلغاء البدلات وإيقاف العلاوات!.
فمعالي وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف يستدل على صحة هذه الإجراءات بالثناء عليها من الرئيس أوباما!، ومعالي وزير الخدمة المدنية الأستاذ خالد العرج يحمِّل المواطن وزر كل شيء، ويتهمه بأن إنتاجيته ساعة واحدة فقط، ثم يضيف أن عمر التقاعد في المملكة قصير، وأن هناك مشكلة في احتساب التقاعد على راتبه الأخير ملمحا إلى تغييره!، بينما نائب وزير الاقتصاد والتخطيط الأستاذ محمد التويجري يقول: إن التوسع في الجامعات "مشاريع ترف" ويتوعدنا بـ"الإفلاس بعد 3 سنوات" إذا لم نقم بهذا التغيير.
المهم، أن بعض السادة الوزراء أخطؤوا التقدير حين حاولوا إقناع الناس بطريقة تعسفية، متناسين أنهم يتحدثون إلى شعب نسبة الأمية فيه تكاد تصل إلى الصفر!.