قبل أن ندخل معترك الحياة، ونصبح جزءا من تلك الدوامة الكونية، كان كل شيء حولنا يبدو جميلا ومليئا بالأحلام والوعود.

وحين أدركنا أننا نقترب من لحظة تولي قيادة حياتنا بحُرية، أصبح للأيام وقع آخر على قلوبنا، فمنيّنا أنفسنا بموعد مع الأحلام، وتوقّعنا الالتقاء بطموحاتنا على مسافة سنوات بسيطة، وتخيّلنا أن النجاح ينتظرنا في مكان ما هناك، فاتحا ذراعيه، وكل ما ينقصنا مزيد من العمل والاجتهاد والسعي لتقصير المسافة.

ولكن كل ذلك لم يحدث، كان عليّ مثل كثيرين غيري، ممن تكبدوا في تلك الأزمنة السحيقة، عناء البحث عن مقعد شاغر في أي جامعة، والرضوخ لأي تخصص تفرضه أنظمة القبول آنذاك، فوجدت أن هذا الطريق لم يكن سهلا.

فبعد التخرج راجعت خريطة أحلامي التي كدت أن ألقيها في لحظة يأس خلف ظهري، وأعدت التمعن في تفاصيلها، فمسحت بعض خطوطها، لأهبِط بسقفها قليلا، فخرجت إلى وظيفة أخذتني عكس اتجاه عقارب الساعة، طويت على إثرها خريطة أحلامي، ودسستها في أحد الرفوف المنسية.

أشعلت جذوة الحماس مع كثيرات غيري، وانطلقنا إلى القرية متفقين أن نتحمل، لنبقي على جذوتها متقدة، مهما كانت التحديات، ولكن كل ذلك لم يحدث، لأن الخط السريع الذي كان علينا أن نسلكه للوصول إلى القرية، يتطلب أن ننطلق الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، فكان يأخذنا ونحن نقاوم نعاسنا لطريق أضيق فأضيق، يقود إلى آخر غير معبّد، ثم يتوقف بعد أربع ساعات أمام المدرسة "المتوسطة والثانوية" الوحيدة في القرية العليا آنذاك.

إلى أن لفظتنا السيارة التي كانت تقلنا يوما على قارعة الطريق، بعد مخرج "الصرّار" بقليل، فتركنا السائق مهرولا، يبحث عن سيارة تقله لجلب شاحنة يسحب بها سيارته، وتركنا بكل سهولة في مهب الريح.

جرحتنا سهام البرد القارس، ففضلنا المشي لأنه الخيار الوحيد، فلا نملك هواتف لأنها من الممنوعات التي كانت تُصادر ذلك الوقت في المدرسة. أكملنا الطريق بإقدام وهمم مثقلة بالخوف، فضغط علينا صمت وذهول، يتخلله عواء ذئاب يتكرر. كنا نشعر بأنها قريبة تارة وبعيدة تارة أخرى. تشهدّت زميلتي إيمان معلمة العلوم، ففعلنا مثلها، وكأننا كنا نقترب من النهاية.

وحين بدأ نور الفجر ينتشر في السماء، كان عواء الذئاب قد توقف. لاحت لنا لوحة "مليجة" يسار الطريق، فأدركنا أن ما تبقى كان ليس يسيرا، ففاض صبر زميلتنا حصة معلمة الرياضيات، وانهارت على الأرض تبكي، لا تصدق أن كل ذلك الوقت مر، دون أن نرى أثرا لأي سيارة على الطريق. جلسنا بجوار حصة على الأرض، نخفف عنها، ونبكي عجزنا خفية عن بعض.

حين أفرغنا بعضا من ذلك الخوف، نهضنا لإكمال الطريق، فشاهدنا أضواء سيارة تلمع في الأفق، شجعنا أنفسنا للتلويح لها، ولكن حين اقتربت تجمدت أطرافنا، وتخشبنا. لا أستطيع أن أحدد إن كان ذلك خوفا أم عزة أنفسنا، كل ما أذكره أنه لم تقو أية واحدة منا على الإتيان بأي حركة. تجاوزتنا السيارة في تردد بعد أن هدّأت من سرعتها، ثم عادت أدراجها إلى الخلف وتوقفت أمامنا، رأينا شابين يُعصبان رأسيهما "بغُترٍ" بنية اللون، فتح السائق النافذة وأخرج رأسه قائلا "النعيرية"، فرددنا عليه "القرية العليا"، فأشار بيده باتجاه الباب الخلفي، تكدسنا في تلك "الكورولا" البيضاء، وانطلقنا غير مصدقين أن ما يحدث حقيقة. حين لاحت لنا القرية تنفسنا الصعداء فلم يخذلنا الشابان، بل كانا صامتين ينفثان سجائرهما طوال الطريق، سارحين في سماء أخرى.

كانت الحصة الثانية تشارف على البدء حين وصلنا ذلك اليوم، وكان على زميلتنا "حصة" إكمال طريقها إلى "السَعيّرةْ"، لأنها معلمة الرياضيات الوحيدة هناك.

فانطلقت بعد أن وفّر لها الحارس سيارة أجرة.

تجاهلنا الإعياء الشديد الذي كنا نشعر به جميعنا، فدخلت إيمان الفصول تباعا، تكمل حصص العلوم التي تبقت في جدولها دون توقف، وفعلتُ بالمثل فقد كنت معلمة الإنجليزي الوحيدة أيضا، وعليّ تدريس جميع مراحل وصفوف المتوسطة والثانوية.

ذلك المساء، طلبت المديرة من سائق الحافلة المدرسية إعادتنا إلى بيوتنا مراعاة لظروفنا. بعد منتصف تلك الليلة بقليل، عدنا نقطع طريق أبو حدرية بإصرار وجلد مع سائق آخر، متجهين إلى القرية لنبدأ يوما جديدا.

بعد 5 أشهر من ذلك الموقف، فقدت إيمان جنينها في حادث، وتعرضت لمشكلات صحية ما زالت تُعالج منها، وقبل امتحانات نهاية العام التالي غادرتنا "حصة" في الصباح كعادتها إلى السَعيّرةْ، ولم ترجع معنا بعدها إلى الدمام، ففي ذلك المساء تأكد خبر وفاتها في حادث انقلاب.

فهل يعرف وزير الخدمة المدنية الذي اتهمنا بساعة عمل، أنه ظلم آلاف العاملين في هذا الوطن بتعميمه المجحف الذي حطم وجرح معظم الكادحين، مثل المعلمات اللاتي يعملن في مناطق نائية ويعتبرن من موظفي الحكومة، ولهن تاريخ في العطاء والصبر والصمود تخطى "ساعة"، ووصل إلى مرحلة أزهقت وأريقت فيها الأرواح والدماء؟!