لست بآت بجديد حين أكرر أن اللغة كائن حي، ينمو ويحبو ويخبو، ويكهتل فيموت. لذا فهي شديدة الارتباط بالمتغير في كل تشكلاته، مابين سياسي واجتماعي واقتصادي. أسلافنا من فقهاء اللغة - و(عمال المعرفة) - وهو تعبير أطلقه الفرنسي بيار بوردو أواخر الثمانينات الميلادية - كالجاحظ وابن قتيبة والثعالبي والفرّاء والمبرّد، جاء نتاجهم مما حولهم، فكتبوا عن سن البقرة الوحشية والشاة والبعير والظبي، وفي مراتب الإبل وترتيب الحب ومعايب العين وعوارضها وفي تقسيم الأنوف وعيوب اللسان والكلام وما إلى ذلك.

جل ما أنتجوه بقي مرتبطا بتاريخانيته. فإذا كان ( البثّ) يعبر عن شدة الحزن، فهو في عصرنا يعبر عن شيء آخر مختلف، إلا إذا اعتسفنا الأمر فقلنا إن البث اليوم عبر وسائط الميديا لا يعبر كثيره إلا عن الحزن في أشد حالاته.

عند أسلافنا في اللغة ( النساء والإبل والخيل والمسام) ، جموع لا واحد لها من بناء جمعها ، لا مفرد لها. هذا مثال لنتاج ظل حيا.

لكن عندما أقول ( راعت الإبل )، بمعنى كثر أولادها طبقا لفقه اللغة العربية، ليس ملحا عليّ أن أعرفها وأنا ابن المدينة ، لم أعرفها من الممارسة في أزقة الحياة، لأنها مرتبطة بحياة البادية، حيث تجد الإبل راحتها في التكاثر، الإبل لا تتكاثر في المدينة.

إذن للغة حيز جغرافي لا تتحرك إلا فيه. مائدة البدوي لا تعرف الشوكة، ولمجرد ذكرها ينصرف ذهنه إلى شوكة مختلفة. وهذا استدلال قديم قياسه القصة المعروفة لعلي بن الجهم مع الكلب في حفاظه للود والتيس في قراع الخطوب.

اللهجات، مكونها حيز له سماته – كدت أقول خصوصية لولا أن المفردة تحولت مبتذلة - فـ (سادن) مرتبطة بمكة والكعبة كموضع ، مثلما أن وصف ( رجلُ لجوجة) لا يمكن أن تنصرف إلا لشخص كثير اللجاج، وما أكثرهم اليوم في زمن ( العيث) والأخيرة تعني الإسراع في الفساد، ومنها ( فلان عاث فسادا).

للغة أيضا حيز زمني محدد ومرتبط بالمتغيرات والتحولات.

لا أحد الآن – على حد علمي – يستخدم كلمة ( مجدح) التي تطلق على الذي يحرك السويق، لأننا تجاوزنا أزمنة السويق.

لكننا استعدنا كلمة (مسبار) مع نشوء مركز ( مسبار للدراسات) الذي وكأنه يعلن بهذه التسمية سبر جراحنا الطويلة، لأن المسبار في اللغة هو الشيء الذي يسبر به الجرح.

( تدثر غزال بدثاره مسندا رأسه على كرسي الركوب، أجال بصره بنظرة أخيرة على المهاجع وعلى رتل السيارات الراكنة في مرآب بدائي، ثم رقد نائما).

استوقفتني الجملة الأخيرة الواردة في المقطع من رواية ( طوارق) للإسباني ( البرتو باثكث فيكيروا). تساءلت : ما معنى أن يرقد نائما. وهل حقا اللغة كائن حي يختلف من لغة إلى أخرى؟