بعد مكاشفة برنامج الثامنة عن خفايا اقتصادية، أو التصريح بها علنا بعد أن كانت مجرد أحاديث محللين اقتصاديين لا ندرك مدى صدقها من عدمه، أصبح لزاما علينا أن نعي خطورة المرحلة، لا بفكرة "شد الحزام" التي ترددت كثيرا، بل بفكرة التخلص من أي حزام خانق يعيق حياتنا، فالإدراك الحقيقي لأي مشكلة بداية حلها، والحلول في الواقع لا تأتي أبدا من الخارج أيضا، لأن من يقدم لك حلوله الخاصة ينظر نظرة شمولية قد تصدق وتنفعك إلى حد ما، لكنها ليست أقدر على الشعور بما تعيشه فعلا، فمن ينظر إلى تآكل دخلك يعلم معاناتك، إلا أنه لا يدرك وقعها الحقيقي الخانق لك ليل نهار!

الاقتصاد الذي يأخذ بناصية السياسة، يأخذ أيضا بيد الإنسان لسياسة حياته بشكل أفضل مما عاش أو يعيش، خاصة حين تضيق حلقاته وتستحكم منتظرة الفرج.

لو طبقنا الكلام السابق على الاقتصاد في حدود دخل الفرد وإمكاناته الخاصة، لوجدنا أن من مرّ بطفرات ارتفاع أسعار البترول وتضخم الميزانية ولم يحقق أشياء تمنحه شيئا من الاستقرار، كتملك عقار على الأقل، أو توفير مبلغ من المال ليوم الضيق أو حتى السعة التي يحتاج إليها ليرفه عن نفسه، سيجد أنه أمام معضلة جديدة غير مسبوقة، ألا وهي التخلي عن كثير مما اعتاده سابقا، كالديون التي أظنها مثالا جيدا على المعضلة، فليس بإمكانه أن يقترض بلا حساب -إن كان معتادا على ذلك- معتمدا على ما قد يأتي من الغيب خلف خارج دوام أو عمولة عقار، إن كان من تجاره ومسوقيه، لأن واقع الأزمات التي ينتجها انخفاض دخل بلد يعود على جميع المواطنين، وما اقتصاد مصر وتدهور جنيهها إلا نموذج على تضرر الفرد صغيرا كان أو كبيرا، فالسلع المتوافرة في السوق قل عدد مشتريها.

الكساد وجه بشع للتراجع الاقتصادي، يكثر فيه المعروض ويقل الطلب عليه، كما يحدث في سوق العقار لدينا، والذي انخفض انخفاضا ملموسا لكن المشتري أصبح أكثر حذرا أو خوفا من الارتباط بقروض لا يعلم إن كان قادرا على تسديدها أم لا، أو ممتلكا لمال يأمل في انخفاض أكثر، وليس العقار أهمية أولى إلا عند من يستأجر أو من يؤجر أو من يأخذ العمولة بلا شك.

الكساد الأصعب الذي تعانيه الدول المنتجة للنفط، هو انخفاض أسعار النفط، ويقال إنه السبب الذي أدى إلى احتلال العراق للكويت، وإلى حرق آبار نفطها عام 1991 ميلادية، مما سبب كارثة بيئية هي الأكبر على سطح الأرض!

ما أشبه الليلة بالبارحة، و"داعش" تحرق النفط بالموصل لتحرق اقتصاد العراق المختنق بالمعاناة والحروب المتوالية والإرهاب الذي تتزعمه أناملها الحارقة للحياة!

تخريب الموارد أبشع سلوك بحق البيئة، لأنه حرمان لإنسان بسيط كادح من الانتفاع بها، واختطاف للقمة من فم جائع، أو حرمان لطفل من أمانه الغذائي، لكنه موجع للموجّه ضده ومؤثر بارتفاع أسعار النفط، على الأقل من باب الخوف من أسعار أعلى في العقود الآجلة.

للدول سياساتها في التعاطي مع الأعداء، لكن الفرد يحتاج سياسة خاصة يكفلها له وعيه الشخصي بما حوله من نافع أو ضار، لكن من حُرم الوعي يحتاج إلى أن يؤمن بضرورة البحث عن مصدر جديد للدخل حسب إمكاناته ومواهبه إن كان مستثمرا أو مضاربا جيدا بالأسهم والسلع، أو سائقا أو مبدعا لأي فن يجني ثمن إبداعه.

للميزانيات الكبرى من هم أعلم مني، لكن على مستوى الميزانيات الصغرى نستطيع أن نتشارك خبراتنا، ونعين بعضنا بعضا لنتجاوز بوعي مشترك ما قد يهمنا أو أهمنا.

لا أخفي عليكم، أن مطالبة أحدهم بتسديد ديونه التي تبلغ مئات الآلاف أمر مؤلم، خاصة لو ترتبت على اقتراض للاستهلاك والصرف غير الضروري، بل ولو كانت ضرورية فالدين في واقع الأمر حفرة يصعب الخلاص منها إلا بردمها، بالتخلص منها بداية من التوسع في الاعتماد على الدين!

من أرهقته النفقات -رجلا كان أو امرأة- يحتاج إلى استشارة اقتصادية تساعده على التوازن المالي، وقلة من المتخصصين الاقتصاديين في مواقع التواصل يقدمونها له مشكورين، لكن الموضوع يحتاج تدخلا أكبر بتقديم دورات إدارة المال مجانا في أماكن كثيرة وقريبة من الناس، في مدارسهم ومراكز أحيائهم، بل الأفضل لو كانت خطوات مكتوبة أو مطبوعة على لوحات في الشوارع.

لا يكفي اليوم أن نتكلم بأسى أو بأمل عما فات أو ما هو قادم، بل في ظني أنه آن الأوان للفعل المجتمعي الذي يعي ويعيد التدوير، ويثمن كل ما نملك لنحافظ على الانتفاع بمواردنا الخاصة والعامة بأفضل طريقة ممكنة.