قرأت في الصغر أن أحد الأئمة الكبار، ولعله الحسن البصري (ت 110هـ/ 728م) أو أبوالحسن الأشعري (ت 324هـ/ 936م) -أو خلافهما- أنه رأى أمه تصلي، وتطيل في صلاتها، وتجتهد في أدائها، وهو يرقبها، فلما انتهت سألها ولدها لمن تصلين؟ فقالت: أصلي لربي، قال لها: ومن ربك؟ قالت: ربي الله الذي خلقني وخلق الناس أجمعين، ثم سألها مرة ثالثة: وأين هو ربك؟ فنهرته بقوة، وقالت له: أبعد عني ولا تحرقني بنارك.. فانصرف عنها قائلاً: اللهم اجعل ديني مثل دين أمي.
هذه الحكاية أو القصة قرأتها في الصغر -كما قدمت- ونسيت في أي مصدر هي، وبحثت عنها في هذه الأيام في مظان كثيرة ولم أجدها. ولعل من يعرف مصدرها من القراء الكرام أن يوافيني به مشكورا. وما من شك أن تلك الحكاية ذات مغزى بعيد المدى في العقيدة، وهي جميلة في معناها ومضمونها، وتنمّ عن رجاحة عقل تلك الأم الفاضلة العابدة التي رأت أن كثرة الأسئلة عن الذات الإلهية قد تجرجر الإنسان إلى مهاوي الردى والهلاك، فيخسر الدنيا وما فيها.
استحضرت هذه الحكاية بعد ما رأينا وسمعنا جميعاً ما يدور في زماننا هذا وفيما مضى قبله من الأزمنة من أحاديث عن العقائد حتى في أوساط العوام، ورأيت أن مثل هذه الأحاديث ليس فيها ما يصلح حال الإسلام والمسلمين، بل على العكس من ذلك، فهي مدعاة لافتراق كلمتهم، وتشتيت جمعهم، واستعداء بعضهم على بعض، وشماتة أعدائهم بهم، فهي التي فرقت المسلمين على مدى تاريخهم الطويل، وهي التي جعلتهم شيعاً وأحزاباً، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضا جهارا نهارا من فوق أجياد المنابر، وعبر القنوات الفضائية على الرغم من أن إلههم واحد، ودينهم واحد، وقرآنهم واحد، وقبلتهم واحدة. ولا أظن أنه مطلوب منا نحن العوام -وأقصد بذلك نحن غير المختصين في العقائد- أن نخوض في مجاهلها، أو أن نعرف من الدين أكثر مما نؤدي به صلاتنا وزكاتنا وصيامنا وحجنا، وسائر عباداتنا على وجهها الصحيح، وأن نعرف عن يقين واعتقاد راسخ أن الله -سبحانه وتعالى- هو الخالق البارئ المصور له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فهو الذي يحيي ويميت وإليه النشور، وأنه وحده لا شريك له في ملكه هو المتفرد بعبادتنا الخالصة له دون سواه، وأن نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، هو رسول الله إلينا وإلى المسلمين كافة، وأنه آخر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، وأن نتعلم من أمور ديننا وتربيتنا الصالحة ما نجلّ به ونحترم ونترضى على آل المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وعلى صحابته، وسائر زوجاته أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن أجمعين.
ومع تسليمنا بما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: "من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين"، فإننا في المملكة العربية السعودية نعيش -ولله الحمد- في وسط ديني نُحسد عليه، فما حصّلناه ونحصِّله من مقرراتنا الدينية في تعليمنا العام، وما اكتسبناه من القدوة الصالحة المتمثلة في ملازمتنا أهلنا، وأفراد مجتمعنا في تأديتهم شعائرهم الدينية، وفي سلوكهم في الحياة العامة، وثقافتهم الإسلامية المتراكمة، وخلاف ذلك مما يُعتقد بكفايته لتنقية معتقدنا وسلامته، ووفائه بما نحتاج إليه من التطبيق العملي لعباداتنا التي أشرت إليها آنفاً، وما عدا ذلك، لا يهمني أن أكون أشعريا، أو ماتوريديا، ولا يهمني أن يُقال عني سلفياً أو لا يُقال، ولا يستفزني وصفهم لي بأنني وَهَّابي، ولا يعنيني حتى تقليد أئمة أهل السنة والجماعة الأربعة، وهم مالك وأبوحنيفة والشافعي والحنبلي (رحمهم الله جميعا)، ويعجبني فيهم قول سمعته للشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ومفاده: "ليس على العامة تقليد" أي أن تقليد الأئمة الأربعة غالباً ما يكون فيما يسير عليه القضاة في أحكامهم وفقاً للمذهب الرسمي للدولة، كما هو الحال بالنسبة لنا في هذه البلاد التي نقتدي فيها بالمذهب الحنبلي.
أما العقائد فلا ينبغي لنا أن ننكر أنها علم قائم بذاته منذ أن بدأ المسلمون يشتغلون بعلم الكلام، ويتشربون مبادئ الفلسفة اليونانية وسواها من علوم الأمم المجاورة، وأن لها رجالها المشتغلين بها، ولها مناهجها ومقرراتها التي تدرّس في الجامعات وفي حِلَق الدّرس مما لا يمكن إنكاره، والحيلولة دون استمراره وانتشاره، ولكن ينبغي أن ننظر إليه على أنه علم تخصصي بحت، ليس للعوام من غير أهله المتخصصين فيه نصيب، وليس من الحكمة التحدّث فيه أمام من لا يفهمه، أو في وسائل الإعلام المفتوح، ولا تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، أو إعلان الجدلية القائمة عليه على الملأ الذي لا يَعِيْه ولا يحسنه، وإنما يجري تداوله فيما وراء الكواليس بين أهله ورجاله المشتغلين به، سواء في مؤتمرات أو ندوات علمية متخصصة، أو في مناظرات جادة مغلقة لاستخلاص ما ينفع الناس منه لتوظيفه في مصلحة البشرية، لا أن يكون مشاعاً بين من يعرفه ومن لا يعرفه حتى لا يساء فهمه، وتطلق بسببه الأحكام جزافاً، ويتحدث به الجهال لا عن معرفة، وإنما من قبيل المباهاة وادعاء العلم.