مما يحسب إيجابيا لبعض القرارات التي حدثت مؤخرا في وطننا، أنها تسهم في رفع معيار بعض الأمور لدى المواطنين، المتعلم منهم والبسيط، وآخرها قرار وزارة المالية بداية هذا الأسبوع، والمتضمن تعليمات بإقفال السنة المالية الحالية بتحديد الخامس من كل "برج هجري شمسي" موعدا لتحويل الرواتب إلى الحسابات البنكية للموظفين، وعليه فإن راتب الشهر الحالي سيحين موعد صرفه في الخامس من برج "العقرب" الموافق للـ27 من أكتوبر الجاري.
العبارة بين قوسين أعلاه هي لب ما أسهم في رفع معيار 3 أمور بشكل لافت في غضون يومين.
أولها أن معيار المعلومات العامة والمعرفة ارتفع عند الشعب بعد سماعه مثل هذا القرار؛ والسبب يكمن في عبارة "برج هجري شمسي"، فقد اعتدنا أن التاريخ لدينا إما هجري أو شمسي، دون اختلاط والتصاق بين المفردتين، الأول هو المعتمد في تعاملاتنا الشرعية والمالية، ويرتبط بهجرة الرسول عليه السلام، والآخر نبادله التعامل من خلف حجاب، فيه شيء من المقت والحذر، لأنه تاريخ "النصارى" الذي يتعارض مع القيم المؤقتة لنا التي توضع من حين لآخر، وساد استخدامه في الشركات الخاصة بالذات، بخجل وحذر من حزب الممانعة الأصولي. ولكن بعد دمجهما في عبارة واحدة "هجري شمسي" اكتشف كثيرون -وكمعلومة جديدة- أن هناك تقويما آخر يوجد بالفعل بهذه المزاوجة في المسمى، وأن من وضعه عالم مسلم شهير، وبدايته أيضا تعتمد على الهجرة النبوية، ويعرف أيضا بالتقويم الجلالي.
هذا التقويم وضعه العالم عمر الخيام مع 7 من علماء الفلك، وهو من أدق التقاويم على الإطلاق، ويتشكل فيه 12 برجا فلكيا لكل منها 30 درجة قوسية على مسار الشمس، تمر فيها الأخيرة على كل برج واحد في شهر شمسي، وتبدأ تلك الشهور بـ6 أشهر عدد أيامها 31 يوما، تليها 5 أشهر مدتها 30 يوما على التوالي، والشهر الأخير يكون 29 يوما في السنوات البسيطة و30 يوما في السنوات الكبيسة، وتبدأ بشهر الحمل أو ما يعرف بالفارسية بـ"فروردين" وتنهي بالحوت "أسفند".
معظم هذه المعلومات عرفها المواطن في اليومين السابقين، وربما تعرف على مزيد منها لاحقا.
أما لماذا ذُكر المسمى الفارسي للبرجين المذكورين مثالا هنا؟ فلأن واضع هذا التقويم الدقيق عالم فارسي، ووضعه للسلطان السلجوقي جلال الدولة ملكشاه، وهو التقويم الذي تستخدمه حاليا دولتا إيران وأفغانستان، وسنصبح معهم منذ الشهر الجاري نستخدمه ونرتبط به عاطفيا، فهو موعد لأرزاقنا وسير حياتنا. ولعل مسؤول المالية الذي ابتكر هذه الفكرة أراد مع توسيع معلومات الشعب عن هذا التقويم، أن يخلق نوعا من التقارب مع الثقافة الفارسية بطريقة ذكية، تتصل مباشرة مع أكثر ما يهم الناس البسطاء ويعنيهم.
المعيار الثاني الذي ارتفع عند الشعب بعد عبارة "برج هجري شمسي"، هو في ظني معيار الوعي بأن ما كان يمنع سابقا ويغلظ في ذكره وتداوله، ويتبع بألف إنكار واستغفار، قد يصبح مع الوقت مُرحّبا به ومرغوبا ومحبوبا ويرحب به ألفا، وأعني هنا الأبراج التي نشأنا على تحريمها جملة وتفصيلها، والنظر إليها أنها من عمل الشيطان، أصبحت بين ليلة وضحاها تحت مجهر المتسائلين والمتداولين لها، ومع الأيام سنحفظ تماما ترتيبها وصفات كل واحد منها وتصنيفاتها وعدد أيامها، وقد نسقطها على الشخصيات و"نحلل" معها رواتبنا كما ترسمها لنا العرابات وقارئات الفناجين.
المواطن البسيط مع تداول الأبراج هكذا ببساطه عقب كل ذلك التحريم، سيفهم أنها وغيرها مما بقي في جعبة التحريم وما سبق، مثل الأطباق الفضائية وكاميرا الجوال وإجازة الجمعة والسبت، وغيرها من الأمور لا تحتاج سوى إلى قرار من الدولة يلغيها، أو يتجاهلها ببساطة، ثم يجعلها من المحببات المقربات في مجالسنا وانتظارنا.
المعيار الثالث والأخير، والذي أصنفه ضمن الممتع الخطر، هو ارتفاع موجة السخرية بين المواطنين.
أصبح كثير منهم يتلبس روح غاليلوغاليلي والبلخي وماجي فرح ونوستراداموس، وتتوالى منذ تلك اللحظة موجة النكات و"الطقطقة" التي يصبح الشعب حدثا بعد حدث أكثر مهارة وتركيزا فيها، فتنزل على وعينا لاذعة تضحكنا علينا ونتقبلها بكل رحابة همّ وظن، ونتفوق على شعوب أخرى كانت رمز النكتة والسخرية على الذات قبل الآخر.
هذه السخرية تعني أن الشعب يقابل إحباطه بالتقليل منها ساخرا، لأنه لا يملك من الأمر شيئا نحو فجاءة اتخاذها، ولا حتمية تنفيذها، ولا المقدرة على تغييرها.
كان بإمكان الجهة المعنية عن اتخاذ مثل هذا القرار أن تتبع بسلاسة ما يتبعه العالم حولنا من تنظيم يستخدم الأشهر الميلادية في صرف الرواتب، وتتبعه بعض الشركات الخاصة الكبرى لدينا دون التفاف وغرابة لا مبرر منطقي لهما، بل تثير السخرية والاستهجان، وتثير السؤال الساخر الساخط: "ما برجك"؟