لا يزال الجدل مستمرا حول قرار إلغاء البدلات والعلاوة السنوية لمنسوبي الوزارات والدوائر الحكومية، وكذلك بالنسبة للقرارات الأخيرة لوزارة الخدمة المدنية، فالبعض يرى أن الهدف من تلك القرارات هو ترشيد الإنفاق الحكومي من خلال ضبط مصروفات الجهات الحكومية، حيث إن كثيرا من تلك البدلات تصرف في غير ما خصص لها، بمعنى أنها تصرف لغير المستحق لها بناء على المحسوبية أو الواسطة، ويحرم منها المستحق الحقيقي لها، بالإضافة إلى التطورات الحديثة في مجال التقنية والإدارة والتي أدت إلى انتفاء الهدف من إقرار البدلات.

والبعض الآخر يرى أن الهدف من القرارات السابقة لوزارة الخدمة المدنية هو تشجيع الشباب السعودي المؤهل للاتجاه إلى العمل في الشركات والمؤسسات الأهلية في القطاع الخاص، بالإضافة إلى التمهيد لتفعيل برامج خصخصة القطاع الحكومي، ناهيك عن تحجيم تضخم الهيكل الوظيفي في الجهات الحكومية والعمل على أساس الكفاءة والجدارة، وهناك من يرى أن أسباب إلغاء البدلات والعلاوات يتمثل أساسا في انخفاض أسعار النفط وارتفاع نسب التضخم، مما يتطلب تقليل الإنفاق الحكومي بشكل عام، ويستمر الجدل على هذا المنوال في ظل صمت وزارة الخدمة المدنية في هذا الموضوع.

ومهما كانت الأسباب أو الهدف من إصدار قرارات إلغاء البدلات والعلاوة السنوية، يكاد يتفق الجميع على فشل الإدارات الحكومية في إدارة وتنفيذ البرامج والمشاريع التنموية، بسبب الترهل الإداري التي تعاني منه العديد من الجهات الحكومية المختلفة، فقد ذكرت إحدى الدراسات المتخصصة في الإدارة بأن الجهاز البيروقراطي أخذ "يتضخم ويفيض عن الطاقة الاستيعابية. يتغول وينمو دون انسجام وتتشابك أجهزته وتتداخل.. وبسبب تركيبة السلطة (الإدارية)، وتدفق الموارد المالية الضخمة على الوزارات.. تغولت صور الانعزالية في الوزارات حتى باتت كل واحدة منها تعوم في معزل ووفق قوانين شبه خاصة"! وليس هذا وحسب، بل قامت بعض الجهات الحكومية بالتحايل على القرارات والتعليمات الرقابية!

ومن ذلك على سبيل المثال تعميم وزارة المالية في الماضي والمتضمن عدم توقيع أية عقود مشتريات تتجاوز (100) مليون ريال دون أخذ موافقة الوزارة، وبحسب تلك الدراسة السابقة فإن تفسير الوزارات الحكومية لسقف هذا المبلغ تراوح بين إيجاد ثغرات في التعميم الوزاري والتحايل عليه، مثل تقسيم العقود على عدة أنصبة، وبعبارة أخرى تجزئة المشتريات الحكومية أو تجاهل التعميم من أساسه، وما زالت هذه الممارسة تعد من أهم ملاحظات ديوان المراقبة العامة حتى يومنا هذا، ومما يزيد في الطنبور نغمة، أن هناك تعليمات مالية صدرت حديثا بإعطاء صلاحيات مالية للوزراء لا تتعدى سقف 3 ملايين ريال، وتم التعامل مع هذا القرار عن طريق التجزئة أيضا!

وبسبب ذلك الترهل الإداري وضعف التنسيق والتنافس السلبي بين الجهات الحكومية وهدر المال العام، ساهمت هذه العوامل مجتمعة في ترسيخ مقاومة أي تغيير أو تطوير داخل الجهات الحكومية، فتزايد الحديث عن أوامر تصدر ولا تنفذ، وليس هذا وحسب، بل التعالي على الجهات الرقابية، ولهذا هناك من يرى ضرورة تشذيب الإدارات الحكومية، وإخراج الفائض من موظفي الدولة إلى مسارات تقاعدية أو وظيفية موازية وآمنة، وربما القرارات الأخيرة لوزارة الخدمة المدنية تصب في اتجاه هذه الحلول، ولكن الأهم من ذلك كله أين دور الرقابة الحكومية؟

رغم تعدد الأجهزة الرقابية لدينا، إلا أنها قد تكون مظهرا من مظاهر التضخم الهيكلي والوظيفي فهي جزأ لا يتجزأ من البيروقراطية في الأساس، وهي ذاتها لا تخلو من الترهل الإداري وضعف التنسيق فيما بينها، وعند الحديث عن الإصلاحات الإدارية والمالية نكاد ننسى الدور المهم لهذه الأجهزة في المساءلة ومكافحة الفساد، بل نكاد ننسى ما تعانيه من مشاكل إدارية أعاقت تطورها ودورها في هذا المجال!

والإشكالية الكبرى أن الأجهزة الرقابية ذاتها لم تلتفت إلى مشاكلها الإدارية وإلى تطوير عملها الرقابي، ودخلت في فخ تضارب المصالح مع الجهات الحكومية المشمولة برقابتها، فهي تسعى فقط إلى المزيد من الحوافز الإدارية والمالية، بالإضافة إلى التنصل من مسؤوليتها الرقابية بسبب فشلها في تحقيق الأهداف المطلوبة منها، فتارة نسمع عن مطالبات بالاستقلالية وتارة أخرى عن مطالبات بالاندماج مع هيئات رقابية أخرى تمتاز بارتفاع رواتب منسوبيها، كل هذا فقط من أجل الحوافز المالية.

إن الحديث عن الإصلاحات الإدارية والمالية لا يكتمل دون الحديث عن مشاكل الرقابة الحكومية، فترشيد الإنفاق الحكومي مثلا لن يحقق هدفه في ظل عدم وجود رقابة مالية محكمة وفعالة، وبرامج الخصخصة لن تنجح أيضا دون إشراف حكومي فعال، فحتى الحلول الاقتصادية المتنوعة لن تحقق أهدافها والأجهزة الرقابية تغط في سبات عميق!