هل جفت ينابيع ومنابع النخب السياسية الأميركية إلى الحد الذي لم تجد بينها أفضل من ثنائية ترامب/ هيلاري للمتقدمين النهائيين في سباق المكتب البيضاوي؟ كنت أظن أن السؤال ثانوياً مقفلاً حتى شاهدت ما قبل البارحة حلقة نقاش عريضة على الموقع الإلكتروني لقناة "cbs" الأميركية والجواب الوحيد من وجهة نظري: هنا يكمن مأزق الديمقراطية وبالخصوص في مثل هذا الزمن. الحاجة الملحة إلى دفع مالي هائل لا يستطيع تدبيره آلاف القادرين المؤهلين. مأزق الديمقراطية الآخر ليس إلا ضريبة الإعلام البالغة التكلفة لأن الفرد/ المواطن تحول اليوم إلى وسيلة إعلامية مستقلة يحمل في جيبه أداة التأثير والتأثر. قرأت البارحة في نفس الموقع أن زعيماً أسطورياً مثل إبراهام لنكولن لم يصرف يومها على حملته سوى أقل من عشرين ألف دولار ولم يقطع سوى أقل من 500 ميل بالقطار في حملة فوزه بالرئاسة. وعلى النقيض، وللطرفة، أنفق رجل أعمال سعودي خمسة ملايين ريال كي يحصد مقعداً بالمجلس البلدي في مدينة سعودية. هكذا وصل دونالد ترامب إلى المباراة النهائية. أما هيلاري كلينتون فقد وصلت إليها عبر ما هو أهم وأخطر من عوامل انحراف الديمقراطية. ستفوز هيلاري، حتماً، ولدورتين لتكمل بأيامها في البيت الأبيض 28 سنة من حكم العائلة الواحدة المطلقة في آخر 36 سنة من الديمقراطية الأميركية، وأعني هنا تتابعية آل بوش/ آل كلينتون. يحدث هذا في قلب أعرق ديمقراطيات اليوم، وهو الجواب لمن لا زال يسأل عن مأزق الديمقراطية أو عن نضوب ينابيع ومشاتل الأنتلجنسيا. إنه المال يا غبي.

بقي لنا في كل فجاج الأرض لمن يعيشون عالة يترقبون المزاج الأميركي أن نتعامل مع ما ستفرزه صفارة الحكم ليلة انتهاء المباراة في الثامن من نوفمبر. إن فازت "أم تشيلسي" فهي امتداد تلقائي بدهي لفترة "أبوحسين". هي وزيرة خارجيته في الفترة الأولى وراسم سياسته التي نقلتنا في خريف العرب من الفوضى الخلاقة إلى الأخرى المدمرة، ونحن بين أم تشيلسي وأبي حسين كما هو الفارق ما بين الخروف وبين الدجاجة. وبالمناسبة فهذا التوصيف لا يعتبر شتماً في الثقافة الأميركية. لا تخافوا في المقابل إذا ما حدثت المعجزة وفاز الثور الهائج لأنه لن يصل البيت الأبيض إلا بعد جلسات روتينية لا تخلع قرنية فحسب بل تدق أربعة مسامير في "زماميره" كي يهدأ أو يفرمل. هي كما يلي: في أيام أسبوعه الأول سيدخل إليه من الباب الخلفي للبيت الأبيض خمسة أشخاص هم مندوبو أركان أميركا الخمسة: وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاجون والأمن القومي والخارجية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. سيقولون له ذات الجمل التاريخية التي تقال لآذان كل ساكن جديد للبيت الأبيض: هذا هو وضع أميركا في العالم، وهذه هي خارطة مصالحها الجوهرية، وهذه هي شبكة تحالفاتها، وهذه هي حدود نفوذها التي يجب أن لا تغامر فيها بالزيادة أو النقص. هو الأسبوع التاريخي الذي يبلع فيه أي رئيس أميركي فقاعات وعوده الانتخابية ويرمي فيها عنتريات خطبه سماداً لزهور البيت الأبيض. نهاية نفس الأسبوع سيدرك ترامب استحالة بناء جداره مع المكسيك أو وعده بطرد المسلمين من أميركا أو منعهم من الدخول، مثلما سيبلع وعوده بفرض الضرائب على الحلفاء الذين تحميهم جيوشه في بقع الأرض، بل سيطالبهم بمزيد من الألوية الأميركية. سيهدأ الثور وسيزور لندن وبرلين وطوكيو والرياض. تسألني: هل لا زلت مع فوز ترامب؟ الجواب نعم. ولكن لماذا؟ والجواب: في الحقل الواسع المفتوح يسهل القبض على الثور بعد مطاردة قصيرة ولكن يصعب أن تمسك بدجاجة حالما تظنها بين يديك ستقفز لأعلى الشجرة.