قبل ما يزيد على عقدين، في عز أيام التزمت، جاء أحدهم إلى رجل كهل يخطب منه ابنته لصديق له جمع الثراء والدراسة الأكاديمية العليا وإمامة المسجد، الكهل رحمه الله أعرفه كما أعرف أبي، وأعرف الخاطب، ولهذا أخذني معه لأدله على المسجد الذي يصلي فيه هذا الخاطب ليراه قبل أن يتقدم بشكل رسمي، وقال لي الكهل: إذا حضر الإمام وكان هو الرجل الموصوف فأخبرني، حضر الإمام للمحراب وأقيمت الصلاة فنظر إليّ الكهل، فأشرت له بنظري أن هذا هو الرجل المقصود، انتهت الصلاة وانصرف الكهل دون أن ينبس ببنت شفة، عندما ركبنا السيارة معا، قال لي: هذا الرجل لا يصلح زوجاً لابنتي، فقلت له: فيه كل الصفات التي تبحث عنها، وموصوف بأنه بار بوالدته.... إلخ. قال لي: هل رأيت ثوبه؟ قلت له نعم: وهو كثوبك أعلى من الكعب، فقال لي: أنت لم ترَ الثوب بشكل جيد، ثم استرسل بقوله: لقد صلى بنا وهو يلبس شراريب بيضاء، وكان ثوبه قصيراً لدرجة تجاوز الشراب الأبيض لتظهر معها لحمة ساقه فيما دون الركبة، هو لا يصلح لابنتي ولو كان فيه كل الصفات التي يقولونها، هذا النوع من الرجال يصلح نسيباً لآخرين لست منهم، وأقفل الكهل الموضوع، وقد تزوجت ابنته من أحد أقاربها، وكان شاباً مختلفا عن هذه الصورة تماماً، يحب الأناقة والاستمتاع بالحياة بشكلها الطبيعي، وثوبه طويل قليلاً، أما الآخر فقد وجد بماله ما يناسبه.

تسمع عن أحدهم أنه بار بوالدته، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فتجده يقبل يديها كروتين يومي وقانون عائلي، ولكن عادتهم العائلية إذا اجتمعوا يجعلون النساء على الأرض والرجال يجلسون على الكراسي، لتجد الشاب لا يتذمر من وجود أمه أو أخته عند قدميه تعطيه الشاي والقهوة، ويراه شيئاً عادياً، ونساؤهم يرين ذلك من (امتيازات الذكر ولو كان ابناً)، فإذا جاء العيد وقام أحدهم بالتصوير الجماعي لأفراد الأسرة الذكور، تسمع صراخه العالي على أمه إذ قطعت لقطة الكاميرا بالخطأ، خوفاً من ظهور أمه في الصورة، فما زالت في نظره مجرد (عورة) وقد تجاوزت الستين، فكيف بأخته التي يراها عورة مغلظة أكثر من والدته لأنها في العشرين.

يأتي هذا الشاب البار بأمه وفق معايير عاداته التي تجعل المرأة مجرد ملكية خاصة بالأب تنتقل إلى أبنائه ليكونوا أولياء أمرها، فيتزوج من عائلة يعيش أهلها معنى الشراكة والتفاهم الحقيقي بين الأب والأم، فتسأل الأسرة عن هذا الشاب فيقال لهم: إنه بار بوالدته، ويتم سؤال الأم المسكينة التي اعتادت الجلوس عند أقدام أبنائها (أولياء أمورها) لتراها وهي تدعو لهم بالتوفيق وتمدح ابنها البار دائماً وأبداً.

يحصل الزواج لتنتقل الفتاة إلى المنزل الجديد، وتحتك بهذه العائلة التي ترى المرأة مجموعة مفردات من (عيب وعار وعورة)، فتكتشف الفارق بين أسرة أهلها وأسرتها، ويبدأ الزوج يعامل زوجته كمعاملة أبيه لأمه، فتتذمر الفتاة وتتدحرج كرة الثلج في العلاقة بينهما لتكبر وتكبر وصولاً إلى الطلاق، والسبب أن أهل البنت فهموا مصطلح (بره بوالدته) وفق مفهومهم، ولم يعلموا أن بره بوالدته يعني أنه ولي أمرها حتى مماتها، وأنها تحت رحمته حتى ولو كانت أمه لمجرد أنه ذكر، ليعيش باراً بأمه وفق معطى السلطة الكريمة اللطيفة، ولو حاولت والدته التذمر من هذا الواقع وهذه الولاية عليها من قبل ابنها لظهر الوجه البشع لهذا الابن الحنون حتى ولو كانت والدته.

العناوين العريضة لكلمة بر الوالدين تختلف مفاهيمها من أسرة إلى أسرة، ومن بيت إلى بيت، أحدهم يزيد على هذه الأوصاف بقوله: فلان لا يدخن، وفلان ثوبه للأسف طويل، وفلان رجل حليق، وفلان ملتح، وكلها أوصاف لا علاقة لها بحقيقة السلوك في التعامل مع الآخرين، لن تجد في الدين الإسلامي صفات تخص الشكل بقدر ما تهتم بحقيقة السلوك مع الآخرين، وأجمل صفات الإنسان الصدق مع الذات، فالتقييم يكون على تجنب صفات النفاق (إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) وغيرها مما يرتبط بالآخرين، فمن التزم بالصدق والأمانة والوفاء كان من أصدق الناس ديناً.

لكن في فترة ماضية تمت الاستعاضة عن هذه الصفات المعنوية لمكارم الأخلاق بصفات شكلية لا علاقة لها بحقيقة الشخص، فانشغل الناس بظاهر بعضهم بعضاً عن حقيقة أخلاقهم في تعاملاتهم البينية، ليكتشفوا خطأ تقييماتهم متأخرين، وبعد فوات الأوان أحياناً.

عزيزي الأب إذا جاءك من ترضى دينه فكن المستشار الأمين لابنتك، فالرضا بدين الشخص يقتضي ما هو أبعد من الشكل، وقد عركتك الحياة لتفهم أن المسألة ليست نظرة خاطفة (يسمونها نظرة شرعية)، وليست مالا أو منصبا يملكه العريس، بل طريقة تفكير ونوع حياة، فحتى زوجة الخليفة التي أخذها من البادية بقيت تبكي شوقاً لخيمة والدها التي تصفقها الريح فهي خير لها من قصر زوجها، فالكفاءة بالمعنى الحديث لا تعني النسب كسلالات الدواب، بل تعني التناسب في الطبع والطبيعة ونوع الحياة، فحتى الأنبياء مهن متنوعة بين راعي الغنم وصانع الدروع والنجار، واختلاف المهن لا علاقة له بعراقة النسب، فمحمد الفاتح سليل السلاجقة وصلاح الدين الأيوبي سليل الأكراد، لكن عندما يعجز الرجال عن استنبات العز والمجد بأيديهم وقلوبهم، يركضون بعجزهم بحثاً عنه في أرحام النساء الماجدات، ولكن كيف للماجدة أن تربي ماجداً وأقصى مجده أن يبقى ولي أمرها حتى مماتها، إنه العجز ينبت عجزاً، هكذا هي الجارية الأَمَة تعيش حياتها لا تملك من أمرها شيئا، أما الحُرَّة فلن تلد ربّتها، بل تنجب أحراراً لا يرضون لشقائقهن الماجدات حياة الإماء ولو اكتسين بالحرير وتزيّن بخواتم الألماس.