في نهاية الأسبوع ما قبل الماضي أثارت اهتمام تفكيري الطالبة أمجاد الغامدي التي فازت في مسابقة اقرأ للمرحلة الثانوية في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في أرامكو، ومكمن إثارة الاهتمام هو في مدى قدرتها على اكتشاف جماليات العلوم والنظريات العلمية وتقريب كل ذلك إلى الحس الجمالي للذهن، وهو الأمر الذي كان يستعصي على كثير من طلابنا بحيث أصبحت العلوم التطبيقية صعبة لأنهم لم يروها بعيون أمجاد.
هذا الأمر قادني إلى التفكير في مسألة تلقي العلوم التطبيقية وطريقة تدريسها، فهي تدرس غالبا بالطرق التقليدية رغم تجاوز الطلاب من ناحية أدواتهم الطرق القديمة في تلقي العلوم بشكل عام، ومع كل النقد الموجه للطريقة التقليدية في العملية التربوية كطريقة تتسم بالجمود والإملال والنظرة الفوقية من قبل المعلم تجاه الطلاب، إلا أن الوضع يبدو كما هو لم يتغير، فلم تتحرك الأمور لفعل التغيير والتصحيح، إلا نادراً وبحدود ضئيلة، مما يجعل عملية التصحيح بطيئة الحركة والتحرك.
نعلم جميعاً صعوبة التعامل مع العلوم التطبيقية في كل مراحلنا التعليمية لجمودها ولبعدها في كثير من الأحيان عن مجالات الحياة، حتى أصبحت هذه النظرة هي النظرة السائدة في المجتمع العربي عموماً وليس المحلي فقط، في حين أننا نعلم أن جميع النظريات أو القوانين العلمية هي في صميم حياتنا اليومية حتى في طريقة إعدادنا لقهوتنا الصباحية، ويتم التعامل مع هذه المواد الطبيعية تعاملاً جامداً ومخبرياً، إذا صح التعبير، وكأنها لا تحتمل إلا هذا النوع من التعامل مما يجعل الأمور معقدة إلى أبعد مدى.
لقد كان الاهتمام بالعقل العلمي إلى جانب العلوم الإنسانية هو المحرك الأكبر بالنسبة للدول المتقدمة، أما نحن فلقد تعودنا أن نتعامل، حتى في السياقات العلمية الجامعية، مع العلوم الطبيعية كقوالب جاهزة وجامدة لا تنتمي للحياة الفعلية دون الأبعاد الماورائية للنظرية العلمية أو الماقبلية لها، أي أننا نتعامل مع النظريات العلمية دون المضامين المعرفية والفلسفية التي تقوم عليها هذه النظريات، أو السياقات التاريخية لظهورها، أي أننا لا نتعامل مع العلم إلا بوصفه علماً غير قابل للواقعية الحياتية، أو بوصفه علماً مطلقاً وغارقاً في التجريد، وإذا كان من الأهمية التعامل معه بوصفه علماً، فكذلك من الأهمية أيضاً التعامل معه عن طريق أبعاده الفكرية ومضامينه الفلسفية لما تضفي عليه هذه الأبعاد من العملية والنظرة الواقعية والمعقولية ليصبح أكثر ارتباطاً بالحياة والإنسان والواقع.
إن النظريات العلمية على طول تاريخ العلوم الطبيعية حتى النظريات الحديثة منها لا تخلو من أبعادها الفلسفية ولم تأتِ من فراغ، بل إن لها جذورها المعرفية التي تتكئ عليها، ولذلك فإن تغييب مثل هذه الأبعاد قد يكون محجما للأذهان عن التعامل العلمي أو النظريات العلمية، كونها تصبح نظريات جامدة لا حياة فيها، في حين أن واقع العلوم الطبيعية يقول عكس ذلك، والمخترعات اليومية تحاول إثبات ذلك لنا بشكل يومي، والارتباط بين الفلسفة والعلم ارتباط وثيق، ولم توجد نظرية علمية من غير جذر فلسفي والعكس، مع أن هناك تمييزا بين الفلسفة والعلم خاصة عند الفلاسفة الوضعيين بالذات، إلا أنه تمييز لمتشابهين لفك الاختلاط والغموض بينهما، لكنك ترى كل واحد منهما متواجداً حيث وُجد الآخر، في أي درس علمي أو فلسفي كان.
من المعلوم أن العلم يحاول وصف الظواهر الطبيعية، والفلسفة تحاول التنظير حول واقع العلوم وتأثيراتها على المعرفة والحياة، وهذان الأمران كانا متداخلين في تفسير الظاهرة الطبيعية في العصور القديمة حتى جاء العصر الحديث ليميز بينهما إلا أنه تمييز معرفي في الأساس، وإلا فالتداخل بين العلم والفلسفة تداخل كبير، لكنه واضح الجوانب في الفرق بينهما، لكن في الحقيقة أن من يتعامل مع الفلسفة دون العلم أو العكس كمن يحاول المشي بساق واحدة. "فما من فلسفة لم تنطلق من الفكر العلمي، ولن تجد عالماً لم يتأثر بالفلسفة أو فيلسوفاً لم يتأثر بالعلم. وأوضح مثال على ذلك علاقة العالم الإنجليزي نيوتن بالفيلسوف الألماني كانط. فالمثالية الكانطية يسهل تفسيرها انطلاقاً من التصور النيوتوني لحساب التفاضل والتكامل، في حين وجد نيوتن ضالته في المثالية الكانطية لتأسيس رياضيات اللامتناهي وعقلنتها.. ناهيك عن أهمية الفيزياء النيوتونية في تكوين الفلسفة النقدية.." كما هو كلام الدكتور عبدالقادر بشته في كتابه الفلسفي الجميل "الفلسفة والعلم".
وما صدق في الحديث حول فلسفة كانط ونظريات نيوتن الرياضية والفيزيائية، يصدق في جميع النظريات الفلسفية والعلمية في كافة التاريخ الإنساني حتى الإسلامي منه، فمن المعروف أن ابن سينا مثلاً كان طبيباً وفيلسوفا في الوقت ذاته، وقاضي قضاة قرطبة الفيلسوف ابن رشد كان يهتم بالعلوم الطبية، مما جعله يؤلف كتاباً كاملاً فيها إلى جانب اهتمامه بالفلسفة الأرسطية، ولا نستطيع بالطبع أن نتجاهل ما للأبعاد الفلسفية في تكوين هاتين الشخصيتين في تاريخنا الإسلامي، وفي العصر الحديث، عصر العلم والتقنية والاتصالات، فإن النظرية النسبية مثلاً، وهي النظرية الأشهر في القرن العشرين، كانت تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية كتب عنها الكثيرون وما زالوا يكتبون، حتى ليقال إن آينشتاين ذاته كان يقول: "يجب على العالِم أن يكون أكثر التصاقاً بالفلسفة، خصوصاً في ظل المشكلات التي تواجهه".
والنظرة التي ابتلينا بها حول الاكتفاء باستجلاب المنتج العلمي من نظريات وتقنية تكنولوجية دون أبعادها الفلسفية نظرة لا تتعامل مع العلم إلا بما يحقق لحظتها الآنية بما أنها نظرة استهلاكية لا تتجاوزها حتى في النظرية العلمية، لأنه من غير الممكن استنبات نظرية علمية في تربة غير فلسفية الروح، ومتسائلة في البديهيات المعرفية، فاليقين لا يمكن أن ينتج غير تكرارية يقينية، وطبيعة الفلسفة التساؤل حول مثل هذه اليقينيات التي تمهد لظهور النظريات العلمية، إن كان المقصد حقيقة هو العلم لذاته، بل يمكن أن تجعل العلم ذاته في حركة مستمرة لطبيعة التساؤل الفلسفي حول يقينيات العلم وبديهياته، وهذا في رأيي سر تفوق العقل الغربي لأنه ما يزال يحاول أن يعيد النظر في المسلمة العلمية حتى غدا شعار العلم أو قانونه المتفق عليه هو: ألا شيء ثابت.
لكن تأتي الطالبة أمجاد الغامدي لتعطينا بعدا جديدا (ربما كتب عنه غيرها لكن من الجميل أن يكون ذلك في ذهنيات أبنائنا)، وهو البعد الجمالي للعلم، فداخل كل رؤية عالم من الجمال يمكن الوقوف عليه.