قف في صف العرضة الجنوبية المستدير، ثم انظر إلى المركز الذي يحرك العرضة، فتلتهب مرددة شَيْلة القصيدة، ومتماوجة مع إيقاعها.
في هذا المركز يقف الشاعر، وإلى جواره طبول الإيقاع، والشاعر يتبادل دوره بين حين وآخر مع غيره من الشعراء.
لكن اللحظة تحين لدهشتك، عندما يقف مديد القامة بعقاله المائل قليلا، وشنبه العريض، وباقي الملامح الممهورة بشموخ جبال السراة... فيتعالى الهتاف والصفير، وتسري في الجموع طلاقة مبتهجة، وملامح استبشار عارم!
أجل، إنه "ابن مصلح" الاسم الذي تداوله الأهلون في الجنوب مختصرا لاسم شاعرهم الأميز محمد بن مصلح الزهراني، وهي العادة في اختصار أسماء ذوي الشهرة.
وحين كان هذا الشاعر الأميز على "الآلة الحدباء" محمولا إلى مثواه الأخير، الأسبوع الماضي، ضاقت بحشود المشيعين الطرقات والتلال المحيطة بمكان الصلاة في بني سار بالباحة.
وبلغ الوسم الذي نعاه درجة متقدمة في مؤشر المشاركة والتداول في تويتر، وتناقلت نعيه الصحف والمواقع الإخبارية، وعاش الجنوبيون، خصوصا في غامد وزهران، مناسبة حقيقية للفقد والحزن.
لم يكن على "الآلة الحدباء" جسد مسجى فحسب، بل كانت ذاكرة من الفرح والمعاني والرمزيات التي صنعها ابن مصلح في الوجدان الشعبي، موقعا على نبضاته، طوال 50 عاما، حس البهجة والفخر والقوة والحب والجمال...
ولم تكن الحشود المشيعة له فريدة في كثافتها ولا في حزنها، فالناس تفقد كل ذي قيمة لحياتها واجتماعها، ولكنها فريدة -حتما- في نوع الفقد وفي صنف الحزن هذه المرة.
إنه الحزن لغياب شاعر العرضة، الذي اقترن، كما هو حال شعراء العرضة والفنون الشعبية جميعا، بحضور الجماعة في نشوتها الغامرة، ولكن بزيادة عن غيره من الشعراء صنعها الزمن الأطول لحياته، وامتلاك الصفات الشخصية والشعرية الأكثر اقتدارا على تمييز التجاوب بينه وبين جمهوره.
ابن مصلح (المولود عام 1352 هجري) أحد أبرز شعراء الجيل الأقدم، لمن تناهز أعمارهم الآن الستينات والسبعينات. وهذا يعني أن الكبار الذين شهدوا حفلات العرضة منذ الثمانينات الهجرية من القرن الماضي، ثم من تلاهم، التقوا جميعا على معرفته.
وقد صنع ابن مصلح الزهراني (رحمه الله) مع محمد الغويد الغامدي (ولد عام 1363 هـجري) أبرز ثنائي شعري متكافئ في الباحة، وربما في المنطقة الجنوبية بأسرها. وكانت التسعينات الهجرية وأواخر الثمانينات من القرن الهجري الماضي، مدار الألق الساطع للعرضة الذي صنعه هذا الثنائي، و-أحيانا- بمشاركة أبي جعيدي (توفي رحمه الله عام 1420 هجري).
ولئن لم يعرف جيل العرضة الحالي الشعراء الأقدم من ابن مصلح والغويد وأبي جعيدي، في الباحة، مثل ابن ثامرة (توفي عام 1338 هجري) والزرقوي (توفي عام 1354 هجري)، فقد بدأ الجيل منذ أوائل القرن الخامس عشر الهجري "الثمانينات الميلادية" يتعرف على جيل من الشعراء أحدث وأكثر عددا. نذكر منهم على سبيل المثال: البيضاني، وابن حوقان، والدكتور عبدالواحد بن سعود، ومحمد بن ظافر (اعتزل مؤخرا) وصالح بن عزيز... وغيرهم.
لكن هذا الجيل الأحدث ظل يعرف للأقدمين أستاذيتهم وسبقهم، وظل الجيل الأقدم يكتسب مع مرور الزمن عتاقة وعراقة، ويستمد من تاريخه رمزية وثراء، ويقتدر على إطلاق بهجة الحضور وترقيص حنين الجماهير بشكل لا يبارى.
وخلافا لفنون اللعب والمسحباني والخطوة، الأكثر حفاوة بالغزل ولواعج الوجدان، فإن العرضة فن الاستثارة للجماعة، ومخاطبة دواعي اجتماعها، ولذلك تحضر القبيلة في شعرها فخرا بها، وتمجيدا لها. وهو حضور تندمج فيه القبيلة في معنى الوطن، وتتمازج معه كما تتمازج مع المعنى الإنساني.
هذا الحضور للقبيلة ملمح بارز في شعر ابن مصلح، وهو أكثر وضوحا لديه من جيل الشباب، وسنعجز عن إحصاء عبارة "أي نحن زهران" في قصائده، كما سنعجز عن إحصاء تكرار الإسناد إلى ضمير الجماعة.
ولا يمكن أن نحسب ذلك في باب القبلية وعصبيتها المنتنة؛ لأنه لا يقترن بالغض من الجماعات الأخرى، بل هو دلالة أنا اجتماعي تفرضه العرضة بوصفها فنا يقوم على التباري والتحدي، وتحفيز روح الجماعة، واحتواء شعور العزلة والفردية لدى الراقصين وامتصاصه باتجاه معان اجتماعية.
وهو أنا لا يكف عن التمدح بالمكارم والمثاليات الأخلاقية وتمجيدها، تلك المكارم والمثاليات الأدعى إلى توطين الإنسان على قبول غيره، والتخلق بأخلاق الضيافة والشهامة، وهي الأخلاق الأرحب من كل معنى للتسامح الإنساني، على النحو الذي تنبه إليه جاك دريدا وبنسبة صريحة لديه إلى "الضيافة العربية".
وإذا كنت أنا من غامد فإنني أنفعل أحيانا بقصائد ابن مصلح عن زهران، وأجد من الطرب فيها ولها ما أجده في قصيدة للغويد، يبنيها على عبارة "أي نحن غامد". وكثيرا ما كان اللقاء بين الشاعرين في غامد أو في زهران، مناسبة لاجتماع دوريهما وتداخل نسبتهما إلى الجماعة.
وهذا يقودنا إلى المجازية الشعرية، المجازية التي يستحل بها ابن مصلح مفارقة الانتساب إلى الواقع، وانزلاق الكلمات فوق المدلولات. فالحديث في قصائد ابن مصلح عن "غروس اللوز" و"الموز" و"الكادي" و"تمر بيشه"... وغيرها، هو حديث المجاز لا الحقيقة.
ولقد كان ابن مصلح أحد الذين أدخلوا الغزل في شعر العرضة عن طريق المجاز، وكان في ذلك متواطئا مع جمهوره الأثير الذي يهتف ويصفر لشاعره في اللحظة التي يطلق فيها مارد المجاز فينثر لوعة العاشق، وعطر الأنثى، وأشياء أخرى.
وإلى ذلك فإن ابن مصلح حفي في شعره بالتاريخ، كما هو حفي بالجغرافيا، فالوقائع المسجلة في شعره وقائع عديدة ومرسومة بتفاصيل تحكي حس الانفعال بها. وقد تبدو بعض قصائده سجلا بُلدانيا وجغرافيا، حين تنبني على تعداد القرى والجبال والأودية، وقد تجمع إلى ذلك أعلام الأشخاص والأسر.
ولا يخلو شعر ابن مصلح من الحكمة والنزعة إلى الإصلاح والتأمل في تجارب الحياة والشكوى من تغير الزمن، وهو حفي بالمعاني الإيمانية الدينية، يضيء بذكر الله، والتضرع إليه تعالى، ويضوع بالصلاة على رسوله...
الذين حزنوا على موت ابن مصلح، حزنوا على أحد أبرز من كان يصنع الفرح الشعبي للبسطاء ويطلق ابتهاجاته اللذيذة ببراءة وتلقائية، في زمن كانت معاندة الفرح، وغلق منافذه الشحيحة والضيقة، مهنة شائعة وتجارة رائجة.