لم تحمل المناظرة الأولى بين المرشحين لرئاسة الجمهورية: هيلاري كلينتون، ودونالد ترامب، أية مفاجآت لمن لديهم الخبرة في برنامج الحزبين الرئيسيين. لكن ذلك لم تمنع تسجيلها أعلى نسبة مشاهدة، خلال 36 عاما، حين جرت المناظرة الأولى، بين جيمي كارتر ورونالد ريجان، أواخر عام 1979.

لقد استغرقت المناظرة بين كلينتون وترامب، 98 دقيقة، وبلغ عدد من تابعوها عبر قنوات التلفزة الأميركية 84 مليون مشاهد، هذا عدا الملايين الذين تابعوا المناظرة على الهواء مباشرة، من خارج القارة الأميركية.

وليس من شك في أن مصدر هذا الاهتمام يعود إلى قلق الأميركيين على مستقبلهم، كما يعكس حالة الانقسام في المجتمع الأميركي، على أنجح السبل لمواصلة النمو الاقتصادي، والقدرة على التنافس في الأسواق العالمية، وتأمين الرفاه.

البرامج الاقتصادية التي بشر بها المرشحان، تقليدية بامتياز، ومثل التوجهات التاريخية للحزبين الرئيسيين المتنافسين على المعقد الرئاسي، وعضوية الكونجرس الأميركي، منذ حقب طويلة.

والذين تابعوا مجرى الانتخابات الأميركية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الأقل، لم يفاجؤوا بعدم وجود جديد في برنامجي كلينتون وترامب.

فهذه البرامج هي انعكاس لاختلاف في الرؤى والمواقع الاجتماعية. إنها بالنسبة للديمقراطيين تعبير عن الرؤية الأيديولوجية للطبقة المتوسطة التي تمثلها السيدة كلينتون، وبالنسبة للجمهوريين فإنها تعبر عن مصلحة الكارتلات الكبرى التي يمثلها السيد ترامب، وما يتبقى بعد ذلك، هو تنافس المرشحين على الكتلة الصامتة التي لم تحدد خياراتها بعد.

بدا المرشح الجمهوري متوترا طيلة فترة المناظرة، يستعيض بالصوت العالي بديلا عن الإقناع، وقد سجلت محطات التلفزة مقاطعته لغريمته أثناء حديثها لأكثر من 20 مرة.

من جهة أخرى، احتفظت كلينتون بأناقتها وابتسامتها، طيلة فترة المناظرة، واستثمرت بمهارة وذكاء أخطاء غريمها، تسعفها في ذلك خبرة سياسية طويلة، اكتسبتها بشكل خاص، أثناء تسلمها قيادة وزارة الخارجية، خلال الدورة الرئاسية الأولى لباراك أوباما.

تحدثت كلينتون عن برنامجها الاقتصادي الذي هو في حقيقته استمرار لبرنامج الرئيس أوباما الاقتصادي، وليس من شك في أن نجاح هذا البرنامج في  السنوات الثماني المنصرمة، هو رصيد قوي للمرشحة الديمقراطية.

وهذا البرنامج هو تجسيد حقيقي لمفهوم دولة الرفاه، وفي ظله تضطلع الدولة بمقابلة استحقاقات مواطنيها، من تأمين صحي، وضمان اجتماعي، وتوفير للسكن، وفرص العمل، ودعم مباشرة من قبل الدولة، لتنشيط الماكينة الاقتصادية، إضافة إلى موقف عقلاني وغير عنصري، تجاه الأقليات والمهاجرين باعتبارهم قوة عمل إضافية، تسهم في رفد القوة الاقتصادية وسباق التنمية.

ولن يكون بإمكان الدولة تلبية هذه الاستحقاقات إلا من خلال زيادة الضرائب، بشكل تصاعدي، بحيث لا تشكل هذه الزيادة عبئا حقيقيا على غالبية المواطنين، وبشكل خاص ذوي الدخل المحدود.

ومن جهة أخرى، تنأى الدولة، ضمن هذه الرؤية، عن التدخلات العسكرية في الخارج، والتي كانت باستمرار سبب ترشيق الخزينة الفيدرالية، وإفراغها من مدخراتها، وتعطيل خطط التنمية الاقتصادية، والتسبب في أزمات مالية حادة، كما حدث أواخر عهدي الرئيسين: بوش الأب، وبوش الابن.        

من جهته، طرح ترامب فلسفة مغايرة، خلاصتها أن زيادة الضرائب على كبار رجال الأعمال، تسببت في تهريب رؤوس أموالهم إلى الخارج، ولم يكن للنمور الجدد في شرق آسيا أن ينعموا باقتصاد قوي، لولا هروب رأس المال الأميركي إلى بلدانهم.

إن تخفيض الضرائب، من وجهة نظر ترامب، سيعيد الرساميل الكبرى إلى أميركا، ويحقق انتعاشا اقتصاديا يستفيد منه كل الأميركيين، وترامب لم يذكر في المناظرة آنفة الذكر، كيف سيحقق ذلك، ولماذا عجز الجمهوريون قبله، ريجان وبوش الأب وبوش الابن عن إعادة رؤوس الأموال الأميركية، وتشغيلها في الداخل. لم يشر إلى الخطوات التشجيعية التي سيقدم عليها في حالة فوزه بالمقعد الرئاسي لإقناع أصحاب الأموال الهاربة إلى آسيا، بالعودة إلى المركز.

كما لم يسعفنا بحلوله، عن كيفية تأثير سياساته الجديدة، في تحقيق ما عجز أقرانه الجمهوريون من قبله على تحقيقه، في سياق استمرار الانتعاش الاقتصادي الذي تحقق على الأرض في عهدي بل كلينتون وباراك أوباما.

إنه صراع مستمر، بين نظرية آدم سميث "دعه يعمل"، والتي تسببت في كوارث إنسانية كبرى، ومجاعات مروعة فوق كوكبنا الأرضي، وبين النظرية الكنزية، القائلة إن شرط تحقيق الانتعاش الاقتصادي، هو وجود وفرة من المال لدى القاعدة العريضة من الجمهور، وإن عدم قدرة هؤلاء على توفير احتياجاتهم الأساسية سيؤدي في نتيجته إلى ركود اقتصادي يتسلل إلى الطبقة المتوسطة، وينتهي بكساد شامل، يتضرر من نتائجه الجميع، بما في ذلك أصحاب الكارتلات التجارية والصناعية الكبرى.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما قبل 8 سنوات، فستحضر بقوة أزمة الرهن العقاري، والأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت بالقارة الأميركية، ثم شملت القارة الأوروبية بأسرها، لتعم جميع بلدان العالم، وقد تسببت فيها السياسة الاقتصادية للجمهوريين.

وحين وصل باراك أوباما إلى سدة الرئاسة، كان أمامه إنجاز الكثير لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحادة، ونجح إلى حد بعيد في تجاوز الأزمة، لكن ذلك لم يصل بدورة التضخم الاقتصادية إلى نهايتها.

لا بد من دورة رئاسية أخرى على الأقل، لاستكمال ما بدأ به أوباما، ولكي تصل حالة التضخم ذروتها، وهو ما لن يتحقق في أفضل الأحوال قبل 4 سنوات من هذا التاريخ.

ولذلك كله، تبقى آمال الطبقة المتوسطة بشكل خاص والأميركيين بشكل عام، معلقة باستمرار البرنامج الاقتصادي للديمقراطيين، وذلك ما يؤهل كلينتون لقيادة المرحلة القادمة، وما يجعلها الشخص الأكثر احتمالا وصوله إلى البيت الأبيض.