المتغيرات الاقتصادية الأخيرة كثيرة، منها ما هو عالمي، كانخفاض أسعار النفط، ومنها ما هو محلي وإقليمي. وقد نتج عنها محليا سياسات ترشيد طالت الكثير من الأسر السعودية التي يعمل أربابها في القطاع الحكومي، حيث الرواتب في بعض الجهات الحكومية ترتكز على البدلات بشكل رئيس. ومع إلغائها وجدت الكثير من الأسر نفسها في مأزق، خاصة الذين تورطوا في قروض بنكية بالاعتماد على إجمالي الراتب القديم. وإن كان موظف القطاع الحكومي هو المتضرر المباشر، فإن موظف القطاع الخاص سيلحقه الضرر عاجلا أو آجلا، فحين تنحسر الأموال في أيدي الناس، ستقل قدرتهم الشرائية والاستهلاكية، وستنخفض مدخولات الشركات وما تقدمه بالتالي لموظفيها. فكيف يواجه المجتمع السعودي اليوم هذه التحولات الاقتصادية الصعبة؟
سيطرت الصدمة على المشهد أول الأمر، وكان طبيعيا أن يبدأ الكثيرون بالتبرم، وهو أمر يحصل مع كل تغيير اقتصادي ورفع للدعم أو فرض للضرائب في أي دولة، فأخذوا في التحسر على المبلغ المقتطع من رواتبهم، الذي تتناوشه أصلا جهات عدة ما بين شركات الاتصالات والمياه والكهرباء، وتكاليف الاستقدام ورواتب الخادمات والسائقين. وهنا انبرى بعض "غير المتضررين" لإعطاء هؤلاء البعض محاضرات في الوطنية وإنكار الذات، وهم لو نقص من راتبهم مئة ريال لتضجروا، فكيف يلومون موظفا فقد ثلث أو نصف راتبه فجأة؟!
وكعادة البشر يمرون بالصدمة ثم الإنكار ثم العودة لتقبل الواقع، وهنا بدأ فريق آخر يقترح طرقا جديدة للتعايش مع الراتب بعد خفضه، وهذه الطرق جميعها تركزت على ما يجب أن يقوم به المواطن حتى لا "يبعزق" مدخوله الشهري على كماليات مثل شرب القهوة يوميا من محلات الكوفي شوب! ويطالبونه مثلا باستبدال الملاهي المدفوعة بالحدائق العامة، وإخراج الأبناء من المدارس الخاصة، بالإضافة إلى عدم السفر، والاكتفاء بحفلة زواج واحدة.
ومن المفيد فعلا أن يراجع المرء بشكل دوري حساباته، فيقلل من المصروفات غير الضرورية، ويوجه مدخوله فيما يفيده وأسرته على المدى الطويل، لكن يفترض حينئذ أن تكون كل قراراته في الإنفاق اختيارية، أما حين يقف أمام بعض هذه الخيارات، فهنا تصعب عملية المراجعة، لأن القرار في النهاية ليس بيده. وأقرب مثال هو موضوع المواصلات بالنسبة للمرأة، سواء كانت عاملة أو غير عاملة، مع كونه ضرورة حتمية للمرأة العاملة أو الطالبة، وضرورة حياتية لغيرهما.
فنظرا لكون القيادة محظورة على المرأة السعودية، فهذا يعني أنها حين تجلس لتخطط لكيفية إنفاق راتبها الجديد، فلن تستطيع أن تفكر في كيفية تقليص المصروفات في بند المواصلات. فإذا كان لديها سائق، فإنها لا تملك أن تقلص لا راتب السائق، ولا إيجار غرفته، ولا تكاليف استقدامه أو تجديد إقامته. أضف إلى ذلك أقساط السيارة وتكاليف البنزين والصيانة وكافة المستلزمات التي تدخل تحت هذا البند. فتشعر حينها بأنها في وضع محرج، لأن هذه المصروفات مفروضة عليها، وإلا لو سُمح لها بقيادة سيارتها لوفرت على الأقل 3000 ريال شهريا. والأمر نفسه ينطبق على رب الأسرة، الذي لا يتمكن بسبب عمله والتزاماته من القيام بواجباته في إيصال أفراد أسرته جميعا إلى مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم، فيضطر إلى إحضار سائق، قد لا يحتاجه فيما لو استطاع تقاسم هذه الأعباء مع زوجته.
لم تعد قيادة السيارة ترفا، فإذا كانت الموظفة الحكومية كمعيدة الجامعة مثلا تقتطع ربع أو ثلث راتبها في السابق لتكاليف المواصلات، فهي الآن ربما تدفع نصفه بلا مبرر حقيقي، إلا أن "المجتمع" لا يتقبل فكرة أن تُصّرف أمورها بنفسها. ولكن هذا المجتمع "الكريم" لن يقوم بدفع هذه التكاليف، وإنما سيكتفي بالتنظير وإلقاء الخطب والمواعظ التي تتبنى الدفاع عن الفضيلة!
وما ينطبق على قيادة المرأة، ينطبق على عملها، فالخطب عن كونها درة مصونة وجوهرة مكنونة، كانت بلا سند منطقي أو شرعي، وهي اليوم أكثر سخفا. فالدعوة لأن تكون المرأة درة مصونة لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي الحالي، وهي حقيقة يجب أن ندركها ونتكيف معها ونتخذها فرصة بانتظار التغيرات المنتظرة. فسنوات الرخاء جميلة إلا أنها ربما أسهمت بشكل كبير في تأخر صدور الكثير من القرارات الحيوية التي تمنح المرأة استقلاليتها. فقد كان هناك رأي يعتقد بأن خروج المرأة للعمل هو للتسلية فقط، ولتنافس الرجل -وذلك بالمناسبة من حقها تماما- ولذلك يتم تعقيد الأمر لها حتى لا تعمل، سواء عن طريق تقليص فرص العمل المتاحة لها، أو اشتراطات موافقة ولي الأمر، أو عدم توفير المواصلات.
اليوم تغير كل ذلك، فالكثير من الأسر كانت لا تستطيع العيش براتب واحد قبل خصم البدلات، أما بعد خصمها فبات الاعتماد على راتب الأب الذي انخفض ربعه أو ثلثه شبه مستحيل، خاصة لجهة الصرف على الخادمة والسائق، ولكن تظل الخادمة "اختيارا" من قبل المقتدرين، أما السائق فهو "فرض" ما لم يتم رفض الحظر عن القيادة.
يقول المختصون في السياسة والاقتصاد إن التحولات الاقتصادية حتمية، وسياسة الترشيد ضرورية، وبالتالي فإن إحداث تغييرات اجتماعية مصاحبة لها بات مطلبا جوهريا. لا لأن تلك مطالب النخبة الليبرالية المنفصلة عن واقع الناس، كما يردد المعارضون في أدبياتهم، ولكن لأن ذلك يأتي في سياق تلبية احتياجات الطبقة المتوسطة، التي تمثل سواد الشعب. هذه الطبقة المهددة في ظل هذه الظروف الاقتصادية، ووسط جمود في الحالة الاجتماعية، وهو جمود لا يتناسب مع تغير الأحوال والأزمان.