سأتحدث عما يمكن تسميته بالدور التربوي للغموض. أستخدم التربية هنا بالمعنى الواسع كعملية مقصودة يقصد بها طرف ما إحداث تغيير يراه إيجابيا في الطرف الآخر. الأثر الذي يسعى له الخطاب الغامض هو استثارة حاسة التساؤل والشك والتفكير لدى القارئ. إنها آلية للهروب من الخطاب الكسول إلى الخطاب النشط. تنشيط الخطاب متوقف على مدى فاعلية أطراف العلاقة التواصلية. الأطروحة هنا أن الخطاب الواضح جدا يساعد على كسل المتلقي وكأنه يقدم له المعرفة جاهزة منجزة، ولذا فإن بث شيء من الغموض في الخطاب من شأنه أن يستفز ذهن القارئ ويحفزه على التساؤل والتفكّر.
من أمثلة هذه النوع من الخطاب ما نجده في الروايات البوليسية القائمة على تحريك الأحداث بطرق متداخلة تبعث التساؤل الدائم في ذهن القارئ لمحاولة اكتشاف الجاني وخيوط الجريمة وإلى ما ذلك. الغموض المقصود هنا يسعى لخلق حالة من الإشكال لدى القارئ. الإشكال هذا يدفع بالقارئ لمحاولة الحل وهي المهمة التي تتطلب طاقة التساؤل والتفكير. هنا نحن في عقد مشابه لعقد التحدي أو المنافسة بين الكاتب والقارئ. عقد شبيه بعقد اللغز ولكنه أقل وضوحا ومباشرة. العلاقة هنا فيها مخاتلة وملاعبة مقصودة. هذا النوع من العلاقات بين البشر يشكل جزءا مهما من تركيبتنا الاجتماعية. مثلا العلاقة بين العشاق لها طابع غامض لذيذ وكأن بين الطرفين لعبة لتحفيز مشاعر الطرف الآخر واستثارة ردود فعله وتعبيراته. هذا الخطاب يتحرك برأيي في ذات طريق الغموض للاستثارة والتحفيز.
لكن لا بد من العودة مجددا لعبارة "الخطاب الواضح يساعد على كسل المتلقي". هذه العبارة تحتاج لتوقف. العبارة صحيحة من وجه، وغير صحيحة من وجه آخر. هي صحيحة إذا نظرنا إلى المتلقي كطرف يحاول فهم ماذا يقول الطرف الآخر. العقد في الخطاب الواضح قائم على هذه الفكرة: أ يقول لـ (ب): "لا تتعب نفسك كثيرا في تأويل ما أقول، سأكفيك هذه المهمة بإيضاح خطابي قد الإمكان، سأبذل جهدي أن أقلل من الاحتمالات التي قد تحيل إليها عبارتي". بهذه الطريقة كأن المرسل يطلب من المتلقي أن يكون كسولا فعلا. هو لا يريد بذل طاقة أكبر في هذا المستوى من التواصل. ولكننا نخطئ إذا اعتقدنا أن العلاقة بين (أ) و(ب) انتهت عند هذه المرحلة. المرحلة اللاحقة في الخطاب الواضح تنقل التواصل إلى مستوى آخر إضافي. (أ) حين يقدم خطابا واضحا فهو لا يتوقع بالضرورة موافقة من الطرف الآخر توقف التواصل أو تنقله للمستوى العملي. الخطاب الواضح قد يسعى لتحفيز الاختلاف، ولكنه يريد تركيز الاختلاف على موضوع النقاش، وليس على تعبيرات المناقشين. لإيضاح هذه النقطة يمكن تأمل هذا المثال: (س) و (ص) يتناقشان حول هذه القضية: هل تعتبر الحاجة مبررا أخلاقيا للسرقة؟ أي هل ترفع الحاجة الماسة اللوم الأخلاقي على السارق؟ (س) يدخل النقاش بعبارات واضحة جدا لإيصال موقفه من هذه القضية. (س) يسعى لأن لا يعوق الغموض الحوار. هو لا يريد بالضرورة إقناع (ص) بعدم وجود مبرر أخلاقي للسرقة، هو يريد إيصال فكرته بوضوح والانتقال لما بعدها، لصلب الموضوع. هنا هدف الحوار والتواصل ليس الطرف الآخر في الحوار ولكن قضية الحوار. هذا الهدف الموضوعي هو برأيي ما يدفع الخطابات التي تسعى للموضوعية، كالعلم والفلسفة، للدفع باتجاه الوضوح بقدر الإمكان. الخطاب العلمي صارم في هذا المجال ومن كتب رسالة علمية يعلم القيود الصارمة على استخدام العبارات غير الواضحة وغير دقيقة الدلالة. في المقابل نجد أن الخطابات الذاتية كالخطاب الشعري يربط الخطاب بشخصية قائله بدرجة عالية، مما يجعل ذات المرسل موضوعا للتواصل.
التقسيمة أعلاه يمكن أن تساعدنا على علاقة الغموض بالخطابات المختلفة. إذا كانت الأطروحة أعلاه دقيقة فإن الغموض يجد له مكانا أوسع في الخطابات الذاتية، كالشعر والأدب، بينما يجد مكانا أضيق في الخطابات التي تسعى للموضوعية، كالخطاب العلمي والفلسفي. في النوع الأخير محفز التفكير ليس خطاب التواصل بل موضوعه. العالم في نظر العالم هو مصدر التحفيز وموضوع التأمل، ولذا فيجب خفض الجهد المبذول في غيره، تحديدا تعبيراتنا عن هذا العالم. هنا نفهم محاولات "ترييض" العالم، أي كتابته بلغة الرياضيات، باعتبارها لغة رمزية واضحة الدلالة. في المقابل نجد الخطاب الذاتي مشغولا بمنتجي الخطاب أنفسهم، ولذا فإن تعبيراتهم هي الموضوع الأساسي للتواصل. وضوح موضوع التواصل لدرجة عالية كفيل فعلا بتفتير التواصل وخفض ألقه. الغموض في هذا الخطاب إذن هو محاولة لتجنب اختفاء الإشكال في خطابات التواصل، باعتبار أنها هي ذاتها قضايا التواصل. وضوح الطرف الآخر في علاقة العشق مثلا يجعل من الحياة معه أقل إثارة فلا مكان فيها للمفاجئ والجديد والغريب.
بالنسبة للعالم والفيلسوف فإن الطبيعة أو موضوعات الفكر كفيلة دائما بمفاجأتنا وإثارتنا بالجديد والغريب. لذا فالطبيعة هي عشيقة العالم التي لا تكف عن مخاتلته بأسرارها التي لا تنتهي. لو انكشفت الطبيعة بالكامل لتوقف العلم عن العمل.