على المدى الطويل، وهو ليس طويلاً على أية حال في زمن المعاصرة والعولمة، فإن الفساد في النهاية دمار للفرد والمجتمع والدولة، وانهيار لها في آن معاً. فحين يُصبح الفساد، وفي ظل غياب القانون الفاعل وحكم المؤسسة والرقابة المجتمعية المنظمة، طريقاً سريعاً للثراء من ناحية، ومن ثم يتم قبوله كأسلوب حياة من ناحية أخرى، فإن المحصلة في النهاية هي موت الضمير الفردي، أو لنقل تلك القيم غير المرئية التي تشكل اللحمة الأساسية التي تجعل من المجتمع مجتمعاً، كما تجعل الروح من الجسد كائناً ينبض بالحياة، والمجتمع المتماسك هو أساس الدولة في خاتمة المطاف. وعندما ينهار الضمير الجمعي، نتيجة انهيار الضمير الفردي، ويصبح المجتمع مجرد تجمع أفراد تجمعهم المصلحة ولا شيء غيرها، رغم أهمية المصلحة في تكون المجتمع، فإن الدولة تفقد في النهاية ثقة المجتمع بها، بعد أن تتحول إلى مجرد فريسة يتزاحم عليها الناهشون، فلا تعود مصدراً للهوية أو مرجعاً للتنظيم وفض الخلاف في المجتمع.

لا تنهار الدول ولا تنهار الأمم إلا بعد انهيار المجتمعات التي تشكل "مجالها الحيوي"، إن صح التعبير، أو فضاءها الذي تعوم فيه وتستمد حيويتها منه. ولا تنهار المجتمعات إلا بعد أن يُصبح "الخواء القيمي" هو المهيمن على الضمير الفردي، مهما كانت الشعارات المرفوعة، ومهما أبدت الدولة من حماية للقيم المؤسسة للمجتمع، طالما كان تحقيق المصلحة بأي شكل من الأشكال هو الهدف. ولا ينهار الضمير الفردي إلا بعد أن يُصبح العبث واللا معنى هو المهيمن على العقل والسلوك. ولا يبدأ العبث في التسلل إلى العقول ومن ثم الهيمنة على السلوك، إلا بعد أن يُصبح الفساد أسلوب حياة وطريقة عيش، فما الفساد في النهاية إلا غياب المعيار أو ضبابيته، وما غياب المعيار إلا نتيجة حتمية لغياب القانون والمؤسسة ودور المجتمع المنظم في الضبط والمراقبة. الفساد هو نقطة البداية، أو لنقل هو جرثومة بداية النهاية، وكم من جرثومة كانت تُعتبر صغيرة لا قيمة لها، أدت إلى كوارث لا حدود لها، فما كان الطاعون الأسود الذي قضى على نصف سكان أوروبا وربع سكان العالم في القرن الرابع عشر إلا فيروسا دقيقا لا يُرى بالعين المجردة.

العائق الثالث من عوائق النمو هو ما يمكن أن نسميه "العائق الإيديولوجي"، وبذلك نعني تلك العثرات النظرية التي تحد من حرية الفعل وحرية الحركة، والمفروضة على المجتمع لهذا السبب أو ذاك، ولذلك حديث يطول، والتي تُشكل في النهاية خطوطاً حمراء أُضفي عليها رداء معين، ديني أو دنيوي، لا يجوز اختراقه، حتى لو تبين أن ذلك الرداء مزيف، أو أنه يقف في طريق حل عملي لمعضلة تبدو مستحيلة الحل في ظل هيمنة إيديولوجية معينة. فالاتحاد السوفيتي السابق مثلاً كان بلداً منطلقاً بثبات على خط التنمية بعد الثورة البلشفية، ولكنه بعد ذلك توقف عن النمو لأسباب لا علاقة لها بالفساد، وإن كان موجوداً ضمن نطاق معين، ولا بسبب قضية التراكم، فقد كانت الثورة البلشفية نقطة انطلاق متصلة بالنسبة للاتحاد السوفيتي، ولكن بسبب رئيس، ولا نقول الأوحد، ألا وهو الجمود العقائدي أو الإيديولوجي. لقد كانت الشيوعية السوفيتية عائقاً أمام استمرار النمو في روسيا والجمهوريات السوفيتية التابعة، من حيث إنه كان هناك الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية تقف في طريق استمرار التنمية السوفيتية، ولكن الخطوط الإيديولوجية الحمراء كانت تمنع ذلك باسم الصفاء العقدي أو الإيديولوجي. فمثلاً كان هنالك دوماً أزمة في الزراعة السوفيتية، لا لأسباب طبيعية نادرة، ولا لضيق في مساحة الأرض المزروعة، ولا لزيادة سكانية لا يكفيها المحصول، بمعنى آخر لا لأسباب طبيعية لا راد لها، ولكن لأسباب تتعلق بطبيعة النظام السائد في البلاد ومنطلقاته النظرية السائدة التي لا يمكن تجاوزها، والتي يقف وراءها منظرون عقائديون هم أشبه ما يكونون بالمفتين أو المرشدين أو حراس النظام في الأنظمة السياسية الدينية، الذين يحددون ما يجوز وما لا يجوز، وما هو حرام أو حلال حتى لو كانت المسألة لا تتعلق بحرام أو حلال، أو بمسألة اقتصادية أو اجتماعية لا دراية لهم فيها، ولا تصور لديهم عن مدى العوائق التي يضعونها في طريق التنمية عامة، والتي هي ضرورة لازدهار الإنسان والمكان.

وكمثل معاكس فإن الصين تفرض نفسها هنا. فرغم أن الإيديولوجيا الشيوعية هي أساس الشرعية للنظامين في الصين والاتحاد السوفيتي، إلا أن الجمود العقائدي السوفيتي كان من عوامل انهياره، فيما المرونة العملية في التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وضعت الصين على الطريق الصحيح للتنمية، ففي المرونة العقائدية، بل في التحرر من الصنمية العقائدية يكمن الجواب. وفي ذلك يقول الزعيم الصيني الأسبق دينغ زهاو بينغ، وهو رائد التنمية الصينية المعاصرة،: "لا يهم إذا كان القط أبيض أم أسود، فما دام قادراً على اصطياد الفئران فهو قط جيد".

أزمة التنمية في بلدان بعينها لا تتعلق بالموارد أو إرادة التنمية، ولكنها تتعلق بعوائق إيديولوجية بحتة، ضمن أسباب أخرى، لعل الفساد المالي هو أهمها.

قد يقول قائل هنا هل معنى ذلك أن نضحي بمبادئنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا من أجل حفنة من الدولارات؟ بالطبع ليس هذا هو القصد، إذ إن المسألة أعمق من ذلك بكثير. فلقد سبق أن تحدثنا عن دور الفساد وغياب سيادة القانون وحكم المؤسسات والرقابة المجتمعية المنظمة في إعاقة التنمية، وبالتالي فإن كسر الجمود العقائدي والتفكير العملي (قطة تصطاد الفئران، لا قطة مدللة نائمة، وأخرى تسرق الطعام) في عالم عملي لن يكون معناه الفوضى، وتلاشي القيم المؤسسة للمجتمع والدولة، طالما كان القانون هو السيد، وطالما كانت المؤسسة هي حجر البناء، وطالما كان المجتمع من المشاركين في البناء، إذ بدون هذه الأمور تتلاشى هذه القيم في النهاية، حتى لو بني حولها سور من الحماية، حينما يسود الفساد، مترافقاً مع جمود عقائدي بين أسسه الفكرية والعالم المعاش جدار من حديد، لا يقارن به إلا جدار يأجوج ومأجوج.

وفي النهاية.. يطول الحديث ويقصر المجال المتاح، فتضطر شهرزاد للسكوت عن الكلام المباح وغير المباح، حتى قبل أن يؤذن الديك بانبلاج الصباح.