طُرُق التفكير في حل المعضلات ليست واحدة، هذا أمر لاشك فيه، فمن المعضلات ما يُمْكِن حلُّها بالاقتصار على تفكيك الحالة الراهنة، ومن المعضلات ما لا يمكن حلها إلا بالرجوع لأصل نشأتها والانطلاق في التفكير في معالجتها من هناك.

يبدو لي أن المعضلة في سورية ينشغل الجميع اليوم في علاجها بالنظر إلى حالتها الراهنة، وهي حالة غامضة في كثير من جوانبها، ومتداخلة ومعقدة في الجوانب الظاهرة منها، تتصارع فيها المفاهيم والمشاعر القومية والوطنية والطائفية والدينية، كما تتصارع فيها المصالح الإقليمية والدولية بشكل أصبح تفسيره الدقيق مستعصيا حتى على الأطراف المتصارعة، ابتداء بالفصائل الصغيرة في الداخل السوري، وانتهاء بالدولتين العظميين، فالجميع لا يستطيع أن يشرح بدقة ما الذي يريده وما الذي لا يريده، وكل من يَزعم أن فصيلا ما أو دولة ما أو حزبا ما يعرفون اليوم ماذا يفعلون في سورية وماذا يريدون فهو إما واهم وإما كاذب يتعمد إشعار الجماهير بوضوح أهدافه، وحقيقة الأمر أن هُنَاك إعصارا يدور بشدةٍ قاتِلةٍ داخل سورية، وهو الذي يُقَلِّبُ الجميع ويُوَجهُهُم كشأن الأعاصير حينما تَحُل بساحة قوم، أو لنقل إن سورية تتقلقل بالجميع كما تَتَقَلْقَل حبَّات البن داخل الحماصة.

مأساة بهذا الشكل لا يُمْكِن إنهاؤها فقط بالسعي لتفكيك الوضع الراهن كما هو حاصل الآن، ولذلك فشلت جميع المحاولات لصنع ذلك، بدءا بالتسابق للحسم العسكري الذي يُعَدُّ مستحيلا، وحتى السيطرة الدولية على الوضع والتي أصبحت أشد استحالة في ظل تنافس الدولتين الأقوى عالميا على الكلمة الفصل، ومرورا بمشاريع الحوار بين النظام ومن يُفْتَرَض كونهم ممثلين للشعب، أو الحوارات ومحاولات التصالح بين الفصائل. كل شيء من هذا فشل في إنهاء المأساة لأن الجميع ينظرون إلى المشهد أمامهم كيف هو؟ ومن ثَمَّ يحاولون تفريق مَنْ على المسرح وإغلاق الستار، وهو ما لم يحدث ولن يحدث في وضعٍ هكذا أبدا. إذن بقيت الطريقة الأخرى من طُرُق التفكير في حل المعضلات، وهي الرجوع بالمأساة لأصل نشأتها والانطلاق في محاولة علاجها من هناك، وهو ما لم يحدث حتى الآن وفق متابعتي الخاصة، وعدم حدوثه ليس بسبب الجهل به، بل هم أكثر خلق الله معرفة بجدواه، لكن كل طرف يعلم أن التفكير بهذه الطريقة سيُنهي الأزمة فعلا لكن بصورة لا تضمن وُجُوده.

فالثورة السورية بدأت كسِواها من الثورات الشعبية دون رأس، وكان بالإمكان أن تنجح وهي على هذه الصفة، لولا أن النظام دخل في مواجهة مع الشعب، وكان الخياران المُتَاحان: إما فشل الثورة في الوصول إلى هدفها النهائي، وإما أن يَتَّحِد جميع الثوار في كل أنحاء سورية في كيان واحد تحت قيادة واحدة. وجاء إعلان تكوين الجيش الحر فرصة مناسبة لاحتواء الثوار في قيادة عسكرية واحدة، وكذلك جاء إعلان المجلسين الوطني والأعلى للثورة السورية كفرصة لوجود جناح سياسي متناغم مع الجناح العسكري. لاسيما وأن أكبر دولتين في المنطقة -السعودية وتركيا- قد أعلنتا عن دعمهما للشعب السوري، حيث جاء في كلمة الملك عبدالله رحمه الله في 8/9/1432 عدم رضا المملكة عما يقوم به النظام ووقوفها أمام مسؤوليتها التاريخية. ومن واقع خبرة السعودية في أفغانستان كانت ترى أن أعظم ما يؤدي إلى الانشقاق والتنازع وذهاب الريح هو فوضى الدعم، فكانت ترى أن الدعم يجب أن تتولاه الدول بتنسيق بينها، كما يجب أن يُقْصَر على الجيش الحر، لكونه أول كيان عسكري مؤهل يُعلن عن نفسه، وأن الفصائل الأخرى ينبغي أن تتلقى دعمها منه، لأن تعدد الجهات المدعومة وتعدد الداعمين يُعطي كُلَّ جهةٍ عسكرية استقلالية تامة عن الآخرين، وبالطبع لن تقتصر هذه الاستقلالية على الناحية الإدارية والتخطيطية بل ستمتد إلى الاستقلال الفكري والعقائدي الأمر الذي سيجعل صراع الفصائل أمرا حتميا، كما حصل في أفغانستان تماما، حيث أدى اختلاف الجهات الداعمة والمدعومة إلى تعدد الرؤوس وتباين الاتجاهات، الأمر الذي أدى إلى تصارع المجاهدين فيما بينهم ومن ثَمَّ انخذالهم جميعا، وأصبح حصيلة قتالهم الطويل انتقال بلادهم من الاحتلال الروسي إلى الاحتلال الأميركي الذي سلَّم أفغانستان بِرُمَّتِها لإيران. ولهذا مَنَعَت السعودية جمع التبرعات من داخلها لدعم الفصائل السورية لكون الدولة ملتزمة بدعم الثورة بالطريقة التي نراها مناسبة.

وهذه الفكرة في إدارة الثورة حَقَّقَت نجاحا مَكَّنَ الثوار بفصائلهم المختلفة تحت مظلة الجيش الحر من أن يحققوا مكاسب كبيرة قدَّرها بعض المتابعين بـ70% من الأراضي السورية، إلا أن جهات استخبارية عالمية وعربية وأفرادا خليجيين يملكون من الأحلام أكبر أضعاف المرات مما يملكون من الوعي والحكمة والعقل قاموا بإنشاء فصائل جديدة تعلن عن مشروعها المستقل عن الجيش الحر، بل قدَّموا إغراءات مادية لاجتذاب بعض الفصائل المنضوية تحت الجيش الحر، ومن هنا فقط بدأت قصة الاقتتال بين الثوار أنفسهم ومهزلة الصراع على المكاسب، وفكرة تحرير المحرر، أي: أن يقوم فصيل بالاستيلاء على المناطق التي تحت سيطرة من يفترض أنهم شركاؤه في الثورة، وفتاوى التكفير التي ظلت تَخْرُج من الفصائل المستقلة، ومبدأ قتال المرتد أولى من قتال الكافر الأصلي، وأشياء كثيرة من صور النزاع التي أخرجت جوانب كبيرة من الثورة السورية من كونها جهادا إلى كونها فتنة.

وحين نريد للكارثة في سورية أن تنتهي يجب أن نبحث عن السُبُل التي تكفل عودة الكيان العسكري الواحد وتُلْغَى بموجب تشكيله جميعُ الفصائل لتُكَوِّن جيشا سوريا واحدا ينحصر هدفه في أن تكون سورية وطنا تتحقق فيه مقاصد الشريعة الخمسة بضرورياتها وحاجياتها وتحسيناتها، حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، أما ما فوق ذلك من أهداف فيجب التسليم من الجميع أن التجارب أثبتت أن ما صح منها أن يكون هدفا فوقته لم يحن بعد، وأن الإصرار على المطالبة بها والاختلاف بين الثوار من أجلها ليس إلا خدمة لمن يسرهم بقاء المأساة في سورية حتى يُهَجَّر آخر إنسان سوري، وهم الصهاينة الذين يشكل الوضع القائم في سورية أعظم نصر لهم لم يرموا فيه برصاصة وحجر.

ومن المفترض أن يُلْجِئ الثوارَ السوريين إلى هذا الباب الوحيد للحل ما علمتهم إياه التجارب من أن الانتصارات القصيرة هنا وهناك وفي جبهة (أ) وجبهة (ب) لا تحقق نصرا حاسما، بل الغالب أنها فُوَّهة لحممٍ منكرة، والتجربة الأخيرة في حلب خير شاهد. كانت مأساة البوسنة في العشر الثانية من هذا القرن الهجري أكثر سوءا من مأساة سورية، فقد كانت بين شعب البوسنة الأعزل، وبين المتطرفين من الشعبين الصربي والكرواتي، يدعمهم حكومتا صربيا وكرواتيا وجيشاهما، لكن المأساة انتهت حينما وُجِدت رغبة دولية لإنهائها، بينما في سورية اليوم توجد الرغبة الدولية لإنهاء المأساة ومع ذلك تتفاقم الأمور كل يوم، فما هو الفرق يا ترى؟ الفرق في تقديري هو أن البوسنيين كان لهم رأس، وهو الرئيس علي عزت بيجوفيتش الذي كان مطاعا مسموع الكلمة في شعبه، بالرغم من أنه لم يكن يملك دعما ماديا أو جيشا أو سلاحا، وكان ما يملكه فقط بعد توفيق الله له هو اتحاد شعبه وراءه، وعدالة قضيته، وقد استطاع أن يقف بهذين الرصيدين في مفاوضات دايتن ووصل إلى حل تم به إنقاذ شعبه وتحرير بلاده، وقد لا يكون ما وصل إليه منتهى طموحه، لكنه بالتأكيد أفضل ما كان متاحا.

فرقٌ أخر، وهو أن المقاتلين العرب الذين شاركوا البوسنيين نصرتهم لقضيتهم لم يكن لهم مشروع آخر غيرُ نصرةِ البوسنةِ وأهلها، فلم يكونوا يَرَوْن البوسنة مجرد محطة لخدمة مشروع آخر يختلف عما تريده حكومة علي عزت وشعبه، أما القادمون إلى سورية من مختلف أنحاء العالم فسورية بالنسبة لهم موقع قتالي ينصرون من خلاله مشروع القاعدة أو مشروع داعش حسب وهمهم، وقد لا يعلمون أنهم على الحقيقة ينصرون مشروع من يحرك القاعدة وداعشا، ولو أن هؤلاء كانوا موجودين في البوسنة حين التوقيع على اتفاقية دايتن لحكموا بكفر بيجوفيتش وكفر حكومته ووجهوا سهامهم نحوهم، ولرأيت حال البوسنيين كما نراه اليوم من حال الأفغان، فقر وبؤس وخوف واحتلال متعدد الجنسيات في الداخل، وتشريد وتمزق في الخارج، وهذه الحال هي التي تنتظر السوريين كما يبدو من الواقع المشاهد، أي أن وضعهم لن يتقدم كثيرا عما كان عليه في أوج حكم آل الأسد، إلا إن استطاع المشاركون في المشهد العسكري والسياسي منهم التسامي فوق الرؤى القاصرة الحالمة وتوحدوا عسكريا وسياسيا، والله تعالى أحكم وأرحم ونسأله أن يأتي بما هو خير.