قبل أيام قلائل كانت ملايين المسلمين تتدفق من مشعر مزدلفة، يسيل بهم وادي محسر إلى حوض منى، يصعد تكبيرهم ويعلو تهليلهم إلى عنان السماء وهم يتدافعون نحو العقبة لرمي إبليس عند الجمرات إحياء لسنة أبي الأنبياء إبراهيم يوم حصب الشيطان حين اعترض سبيله ووسوس له حتى لا يستجيب لأمر ربه.. تسمع صيحاتهم يلعنون "إبليس" الذي أفسد أخلاقهم وخرب بيوتهم وملأ قلوبهم حقدا وضغينة على إخوانهم وجيرانهم وأهل مودتهم.
هؤلاء الراكضون، الذين وحدتهم المشاعر وحركتهم الرغبة في اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيهم الكبير والصغير، الوزير والخفير، الغني والفقير، الجليل والحقير، وكلهم يتصاغرون في هذا اليوم، يستشعرون ضعف حيلتهم أمام الخالق الرازق الودود، يرجون رحمته ويخافون عقابه ويأملون في قبول برهم حتى لا تحبط أعمالهم. وهؤلاء هم وفود المسلمين الذين يمثلون سدس سكان الأرض، باختلاف ألوانهم ولغاتهم وسلوكهم وواقع حياتهم. وهم يتفاوتون، غنى وفقراً، علماً وجهلاً، تقدماً وتخلفاً، لكن أغلبهم يتشابهون – للأسف – في أنهم سرعان ما ينسون هذا الاجتهاد في تتبع مسالك الصالحين وترصد مواقع الإجابة ومواطن الخير، فلا تكاد تنقضي أيام التشريق حتى يهبطوا من "سماء" الحج، بكل قيمه ودلالته إلى "أرض" الواقع المنفصل عن ما كانوا عليه قبل أيام .
هؤلاء الذين يركضون لرمي "إبليس" عند جمرة العقبة، تعلو صيحاتهم وترتفع حناجرهم بالدعاء والتلبية والخضوع لربهم هم أنفسهم الذين يتدافعون لاستقبال "الأبالسة" عند "أنفاق" الحياة المظلمة بالجشع والأنانية والحقد والكراهية والشك في الذمم والطعن في الدين. تراهم يستفيدون من "خدمات" كل الأبالسة إذا نزلوا"" وادي الحياة" المليء بالغش والخداع، لا يترددون في مصاحبة "إبليس" حيث تكمن المصالح والمنافع. كانوا بالأمس يستعيذون، عند الجمرات، من إبليس وأعوانه حين لم يكن بين أيديهم "مشاريع" تحتاج إلى شيطنته وابتكاراته وحيله، لكنهم اليوم يستعينون بكل الأبالسة ليخترعوا لهم وسائل الاحتيال على الأنظمة المالية والرقابية ويكيفوا لهم صيغا تساعدهم على تعديل المواصفات في المشاريع وتدلهم على طرق اختزال الحديد في بناء الجسور وتنقيص خراسانات المجاري وتسليح الأنفاق وتمرير المخططات في مسايل الأودية. هؤلاء الذين تباكوا بالأمس عند جمرة العقبة، يلعنون إبليس، هم الذين يبحثون عن الأبالسة الأذكياء، اليوم، ليتتلمذوا على أيديهم ويتعلموا منهم كيف يفصلون الوظيفة على قدر مصالحهم وكيف يتفننون في إيجاد منافذ صرف المال العام في غير ما خصص له.
والذين يرمون "إبليس" عند العقبة، ويتدافعون رافعي الأكف عند الكعبة، تهطل أعينهم بالدمع وتذوب قلوبهم خشية ربهم، هؤلاء فيهم: المسؤول الكبير والموظف المنفذ الصغير، وفيهم المقاول الضخم الذي تغطي مظلة أعماله شبكة من أصحاب المصالح كما فيهم التاجر البسيط . وفيهم المعلم المؤتمن على تربية الأجيال وطالب العلم المتصدي لأحوال الناس، كلهم يقفون عند الكعبة، يتعلقون بأستارها، يتذللون ويتباكون عسى أن تصيبهم ساعة رحمة أو تشملهم لحظة مغفرة. وكم هو جميل أن تكون حياتهم وسلوكهم امتداداً لتلك اللحظات، لكن للأسف، منهم الكثيرون – ولا نظلم الأخيار الموفقين– لا يلبثون أن تجرفهم سيول الحياة، فترى طالب العلم منهم يجعل علمه مطية للحاق بركب المال، فإذا سئل عن حكم شرعي انشغل بالبحث عن صيغ "القبول" عند الناس ولا ينشغل بالاجتهاد في موافقة الحق وإن لم يرض الخلق. وهذا "المفتي"، وأمثاله، يهرع إليهم "إبليس" محيياً مهللاً ملبساً عليهم الفرق بين "التسهيل" الذي هو منهج هذا الدين وسنة نبيه الرحيم وبين "التمييع" واتباع الهوى الذي هو صناعة الأبالسة الذين لا يريدون للإنسان أن يستقيم على الهدى. وفيهم المسؤول الذي إذا أوكلت إليه مهمة جعلها "غنيمة" وجعل من أيامها "موسماً" لحصاد الانتظار وكأنه جاء ليثرى، خائفا مما قد يأتي به الغد، فتراه نشطاً شرهاً في جمع المال وابتكار الوسائل والمشاريع التي تمكنه من توجيه المال العام إلى خزائنه الخاصة. وترى بينهم المستشار الذي يلعن "إبليس" ويسعد بالخوض في الزحام ليرميه عند الجمرات اعتقاداً منه أن الإخلاص هو سبيل النجاح والفلاح، لكن هذا "المستشار" تراه حين يسأل لا ينشغل بقول الرأي الصواب، كما يراه ويعتقد صلاحه، بل تشخص أبصاره إلى وجه سائله، يبحث في قسمات وجهه، ونظرات عيونه عن "جواب الرضا" الذي يطيل بقاءه في مكان المستشار ولا يهمه الانشغال بجواب "الصدق" الذي يؤدي به الأمانة وينزل به حق المشورة وينسى يوما أنه لعن "إبليس" أو تحمس ليرمي رمزه عند العقبة، فتلك "نقرة" وهذه "نقرة".
هذه الصور التي لا ينسجم في عقولها وعواطفها وسلوكها معتقدها الديني مع سلوكها في الحياة هي نماذج مفسدة لمعنى التدين، ومعطلة لثمرة العبادة، إذ تنقلها من الأثر الروحي إلى المظهر الخارجي، فلا تتجاوز تأثيراتها المظاهر، وهذا ما يفسر "ظاهرة التدين" الشكلي وغياب الوازع الداخلي في حياة الكثيرين منا. فهل يولي المهتمون بحركة المجتمع ورصد تغيرات سلم قيمه وما طرأ عليها من تقلبات؛ هذه المسألة اهتمامهم، ويتأملون في أسبابها وتناميها لمعرفة دواعيها ومغذياتها ويبحثون عن وسائل معالجتها؟.
سأعترف بأنني كتبت هذه الكلمات بقدر من "المنبرية" المتأثرة بخطابنا العام، حيث ينزلق القلم واللسان إذا تفاعلا مع فكرة، فإذا النبرة العالية هي السمة الغالبة. فبعد الانتهاء من تسطير هذه الكلمات وقراءتها شعرت أنني كنت "خطيبا"، وحين حاولت "عقلنة" الكلمات تلاشت الروح التي حركتها فأبقيتها كما هي.