شواغل السائق الهندي تمضي به إلى رواية نُتفٍ من سيرته، حين كان موزعًا في فرع شركة مرطبات بالمدينة المنورة. النهار كله، وطرف من الليل يُلاحقانه لكيلا تغسل القدمين تعبهما قبل أن يتأكد من توافر الزي المدرسيّ في خزانة ابنته ذات الخمسة عشر ربيعًا. عُمرها ذكّره، آنذاك، بخروجه من القرية، واللحاق بطائرٍ يسري في حكايا العائلة، يغادر تارة إلى دولة خليجية، ويأبى تارة أخرى إلا أن يكون المقام قريباً من طيبة أو فيها. تعلّمَ بكير أن يُسمي الحنين ويعترف بمحدوديته أمام قدرٍ ساق البركات إلى راحتيه، في بقعةٍ كانت ألسنة شيوخه تُجريها مثالاً وطوبى ممكنة. ضوء المكان البعيد، وهو اليافع الذي لم تُرحه الصلاة بعد، خالطَ أملاً تُخيفه مُسبقاتٌ عن السيدات والسادة الذين اعتادوا إراقة ماء الوجوه، وابتزاز الأجنحة المهاجرة بغدٍ مكسور.
ثلاثون عامًا احتفت بالكتابِ وأعباء دروس التقوية. السيارةُ التي يغسلها في طرف الشارع لا يحدها "الوصف الوظيفي"، ولا يستعيض عن الدقائق المستغرقة حدبًا على سطحها بلقاءٍ عن بُعد. طفلاه أمامه. تعليمهما إجابة كافية، وطريقٌ أحب منعطفاته. كيف لا تصبحُ ابنته حاملةً لماجستير إدارة الأعمال، ولا ينتشي أخوها بخوذة المهندسين البيضاء؟ من أين للأب ترف التجاهل، والانكفاء إلى جواز سفرٍ تُعلن أختامه عودةً وتجفيفاً للعرقِ المتفصد على الجبين؟ ما زالا يحلمان، ولم تطأ أقدامهما بعد الحرم الجامعي. ما زال يحرث أرض أمنياتهما بكثيرٍ من الدعوات، ويراهما، بعد بضعة أعوام، بمنأى عن شبح الفقر والبطالة. إنه العيشُ في المستقبل، وقد خلّف وراءه أرقامًا مخيفة عن ضحايا يُشبهونه، ويقتسمون مع أسرته الصغيرة هواء البلاد التي تُقدمُ للقرن الحادي والعشرين 300 مليون أُميّ من أبنائها.
قد لا يعرف بكير مواطنته أرنداتي روي، الروائية والناشطة التي ترى في الهند نموذجًا لعولمة بشعة لا ترحم الفقراء، بل تزيدهم، كما صار معلومًا من الملاحظة بالضرورة، فقراً، وبات من معالمها شيوع مفردات السلاح النووي وبناء السدود الضخمة في مقابل نزوح ملايين المزارعين من قُراهم، وانتشار أحاديث "التجربة الديمقراطية" التي لم تساعد التقاليد الاجتماعية، الفاصلة بين مكونات المجتمع بحدة، على التخفف من غلوائها. عند هذا تلوح المقارنة بين هندين، إحداهما لا تنفك تُصدِّر إلى العالم منتجات تقنية بالغة التعقيد ومخرجات تعليم عام متميزة ومظاهر ثراء لا تُخطئها العين، وأخرى تُعرفُ بأزقةٍ لتعريف ضيقها يحتاج المرء إلى استدعاء ذواكر بائسة تتغذى على حالات التهميش وواقع الطبقية المتوارث الذي لا سبيل معه إلى أرضية مُشتركة بين أطراف مُدن تنهض على أكتافها سياسات البنك الدولي وتقاريره. وحتى إذا غضضنا الطرف عن جهتين تتقاذفان نظرات التوجس، فإن بنايةً واحدة في أحد أحياء مدينة مومباي، على سبيل المثال، ترسم لوحة غرائبية عن الهند الجديدة، بين طوابق تسكنها أصص الزهور، وطابق أرضي يقطنه الكدح، وتستقر فيه العناكب والبعوض؛ وهي بناية في مدينة تُماثل شقيقاتها، في شرق العالم وغربه، تُزار ليرى الناس فيها نزرًا يسيراً مما لا ينقله الإعلام السيّار، وما يأخذه التقليد في الفن والخطاب السياسي على محمل الترويج السياحي الذي يُخفي طبقات كثيفة من الواقع في سبيل إظهار ألوانٍ ليست من الأصل في شيء.
لهذا يُربي بكير تفاؤله حتى في أشد الطرقات ازدحامًا. يذرع الأحياء ويجوب أعماقه ليتفقد درجةً غابت عن ورقة اختبار إحدى فلذتيه، ويضعها حيث يأمل. في اختبارٍ قادم. في ابتسامةٍ مهمتها ترتيب الفوضى، وقراءة الحياة من بواكيرها، وصولاً إلى تمثل المعنى الذي قصده فيكتور فرانكل، المعالج النفسي الذي عاش في المعسكرات النازية عُمرًا من القهر والتأملات، خرج منه بخلاصاتٍ تفهم اليأس وتقاومه، وتحفظ للتفاصيل الصغيرة غِناها، وتطمئن إلى قوة المخيلة تحت أسقفٍ منخفضة أو، كما هي حال بكير، خلف المقــود.
فتح الأبُ نافذة انتمائه بين السماء والأرض، وأيقظ في المعرفة جدوى تنام في طُرقات يعرفها، وتعرف أن سفره الدائم في الحلم، وتحت وابل الصبر، لم يكن إلا ليفتح العالم ذراعيه لصغيرين ليس أمامهما من خيار سوى المسارعة، حقًا، إلى المجد.