كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والأكرام.. الكثيرون ممن حولنا سقطوا.. ممن سمعنا عنهم ولم نعاشرهم، ومن كانوا معنا فأصبحوا من عالم القبور، قبل أيام ودعنا الوزير يماني بسيرة عطرة رحمه الله، وفي هذا العام 2010م حصد الموت جوائز كثيرة من أرواح شتى، كان منهم القصيبي الإداري والشاعر الساحر، وفتحي يكن الداعية الإسلامي اللبناني، والمفكر البغدادي الكويتي، والجابري المغربي صاحب مشروع التجديد في التفكير، وفؤاد زكريا صاحب الكتابات التنويرية الشهير، وأركون صاحب كتب النقد والنقض الديني، فذهب إلى ربه فهو سائله عن حقيقة الدين والديانة فبصره اليوم حديد؟ والعالم الروحاني الشيعي فضل الله، وصديقي أبو توفيق الحمصي الحبوب اللطيف، وأبو مروان من الجولان الذي عاش نكرة إلا من محيطه، وزهرة التي كانت لعائلتها زهرة فودعت في نصف ساعة بدون علة وشكوى ومحمد عوض الخطيب المفوه، وقبله شوكت الجبالي ونحن نعرفهم فهم من جيلنا، ولعل البعض لايعرفهم ولم يسمع عنهم، ولكنهم تركوا خلفهم الذكرى العطرة، ولا أنسى حسن الهويدي ذلك التقي الورع، وأمين شاكر أستاذ الرياضيات الذي ربى جيلا من الطلاب النجباء حتى لفظه الوطن فمات في الغربة، ونضيف لهم نصر حامد المصري الذي خطفه الموت مبكرا ولم يكمل السبعين، بمرض غريب في أرض البعد في أقصى الشرق في أندونيسيا، ومن قبل تركي الربيعو الصديق الفاضل والأديب الملهم مات بسرطان رأس المعثكلة، وهو من الأمراض النادرة العجيبة، أول ما عرفته في أول لقاء للمرض مع رئيس الأطباء الألماني، الذي عملت معه في مدينة سيلب الصغيرة في بافاريا؛ فلم يعش طويلا مثل تركي الربيعو ودكتور الأطفال السوداني نور الذي تعرفنا عليه في مشفى القصيم التخصصي، ومن الأموات الحركي السياسي عدنان سعد الدين فكلهم أفضى إلى ماتقدم فسائله ربه عما فعل وارتهن.
في القامشلي أذكر جيدا تلك العبارة المؤثرة من حليمة أم وجيه وهي تخاطب المار: أيها المار على قبري وقف شويّ واقرأ المثاني على روحي أمس كنت حية مثلك واليوم تحت التراب فادعو لي، والمرأة أعرفها جيدا فقد كانت صديقة والدتي رحمة الله على الاثنتين أعني حليمة ووالدتي، وهن أي الاثنتان كن في عرسي، واليوم درس فلم يبق عرس، وماتت صاحبة العرس ليلى، وماتت جاهدة وحليمة وليلى على الثلاثة طابت الرحمة فهل من دمعة؟.
أما والدتي فكان بها من قوة إرادة الحياة ماجعلها تعيش طويلا وهي تحمل عشرعلل، ولكن والدي مات ليس بالعلل ولكن بالاستقالة منها، فقد مات شبعان الأيام شرب من كأس الحياة إلى حد الملل، واستقال منها بكل بساطة قريبا من مائة عام بعد أن مات جيله وأقرانه؟
أما حليمة التي تجعل اسم مرضعة الرسول المصطفى يرن في أذني حليمة السعدية، فقد كانت آية في الجمال والأناقة والمشية، ولم تكن تشكو من علة،حتى انهارت في منتصف العمر بسرطان ضرب الدم (اللوكيميا) فما عاشت طويلا، وهي التي كانت تقول للحياة تأمل فيّ فأنا منظر من الحياة بهيج.
أما الثالثة زوجتي ليلى فخطفها الموت على حين غفلة، بدون علة وضعف وشكوى، فانطبقت عليها الآية وما يعمر من معمر ولاينقص من عمره إلا في كتاب، وهي كانت من هذا الصنف الذي قصر في عمره، كما ينقص من أطراف الأرض، أو لم يروا أن نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
ولكن الأبلغ كان في القبر الذي رأيته في حي الميدان في دمشق وعليه هذا الشعر وهو يذكرني بشعر السهروردي الحلبي:
دفن الجسم بالثرى ليس بالجسم منتفع
إنما النفع بالذي كان بالجسم وارتفع
أصله جوهر نفيس وإلى أصله رجع