ندرك، الآن، أن تحسين صورتنا وتصحيحها لدى الآخر، لاسيما الغربي، مسألة ضرورية لوجودنا ومستقبلنا.
وندرك، في الآن نفسه، أن هذه المسألة لم تغب عن بالنا تماماً؛ لأنها حاضرة في المهرجانات والمعارض المحلية التي يدعى إليها ضيوف من الخارج، وفي معرض الرياض ثم معرض المملكة والأيام الثقافية السعودية التي شاركت في عواصم عربية وعالمية عديدة، وفي الفضائيات والصحف السعودية والمدعومة سعودياً مثل مجموعة MBC وSky News وروتانا وصحيفتي الحياة والشرق الأوسط وغيرها، مما يتصدر عربياً لدى نخبة المثقفين وعامتهم أو يحظى باهتمامهم، وما تسهم به بعض السفارات السعودية في الخارج.
لكن ذلك كله لم يُجْد شيئا، أو كانت جدواه طفيفة لا تكاد تذكر. وذلك لأسباب، أبرزها اثنان:
أولهما: تضاؤل الحضور السعودي في تلك الفعاليات والوسائل، واختصاره في صور مكرورة للصحراء والبداوة أو للقداسة، يقل فيها ويشحب الحضور العصري للإنسان السعودي، أو يجيّر لصالح الأجنبي من العمال إلى الخبراء، وأحياناً يصنَّف بوصفه مُنبَت الصلة بالمجتمع السعودي.
والآخر: ضخامة التشويه الذي تتعرض له صورة المجتمع السعودي، وتزايده. وهي ضخامة ناتجة عن تعدد منابع الإساءة والتشويه وانبثاثها في كافة وسائل الثقافة والإعلام من الكتاب إلى الفيلم، وفي مدى زمني ومكاني واسع، ينتهي بالسعودي إلى القاع الذي تتجمع عليه طبقات بعضها فوق بعض من كراهية مشتركة تجاه المسلم والعربي والنفطي والإرهابي...إلخ.
أما من جهة تضاؤل الحضور السعودي في الفعاليات والوسائل التي تهدف إلى التواصل مع الخارج، فيمكن ملاحظة "الرسمية" في المهرجانات والفعاليات، وهذه صفة تنزع منها الجاذبية والشعبية: أذكر، على سبيل التمثيل، ما أخبرني به أحد الزملاء شارك في تنظيم ندوة أدبية في مناسبة معينة على أحد مسارح جامعة القاهرة. قال: كان عدد قليل من الطلاب والطالبات في أعلى المدرج حين كنا نرتب للندوة، وحين بدأت الندوة غادروا، فلم يعد أحد موجودا إلا ربعنا!.
وهذه الرسمية التي تتحول إلى أداء وظيفة وتنفيذ دور من دون اكتراث بالقيمة والنتيجة، لاحظناها في تصوير تكرَّر عرضه في التلفزيون الرسمي قبل سنوات، لصفوف طويلة تنتظر الدخول إلى معرض المملكة في إحدى الدول، من دون أن يقال إنهم ينتظرون استلام نسخهم من المصحف الشريف التي توزع مجاناً. وقيل مرة إنهم من أجل المشاركة في مسابقة ينظمها المعرض.
الحضور الذي يصنع قيمة حضارية ومدنية لأي مجتمع، هو الحضور الذي يمثل عبقرية وموهبة وإبداعا، أو يمثل جهداً استثنائياً. وهو حضور فردي وحضور شعبي بالضرورة، وهذا هو السر في جاذبيته والاحتشاد عليه من قبل الآخر؛ لأن فرديته وشعبيته تتجاوزان به المحلي إلى الإنساني والكوني، حين يجد كل إنسان صداه ودهشته والتجاوب معه.
ولذلك تصنع المجتمعات صورتها لدى المجتمعات الأخرى بقدر ما تمتلك من مواهب وإمكانات محلية تُنتج بها الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية التي تحقق مستوى من الرواج والمشاهدة ويتراءى فيها المجتمع المحلي للعالم. كما تصنع المجتمعات صورتها بالفرق الفنية الموسيقية والغنائية، وبالأعمال الأدبية والفكرية الاستثنائية، وبالاختراعات المختلفة التي تحفر اسم المجتمع وتمهر بصمته في الذاكرة الإنسانية.
ولسنا، بحمد الله، أقل من غيرنا عبقرية ومواهب، ولكننا كمجتمع أقل من غيرنا إفساحاً لتلك المواهب والعبقريات، وأكثر محاصرة ومنعاً لها واستنفاداً لطاقتها في التبرير لفكرها، والبحث عن مشروعية لجهدها، والدفاع عن وجودها. ولهذا فنحن أكثر دفعاً لها إلى إيثار الصمت، و"بلع العافية".
أما من جهة الصورة الشائهة والمسيئة للسعودي، فإنها ضخمة ومتراكمة، لأنها تجمع تلك التي تقصد إلى انتقاص المسلم والعربي، وتزيد عليها بصورة الثري والنفطي وملحقاتها من الجهل والعنف. ومن أغنى المرجعيات عن هذه الصورة وأدقها جمعاً وتحليلاً، دراستان لجاك شاهين عن "التصور النمطي للمسلمين في الثقافة الأميركية" (1997) و"العرب الأشرار في السينما الأميركية" (2001).
وقد ازدادت هذه الصورة سوءاً بعد حادث 11 سبتمبر 2001، واتجهت أكثر من ذي قبل إلى تعميم صفة الإرهاب على كل المسلمين، وأنهم نقيض للحضارة الغربية على نحو ما اقترح هنتنجتون في نظريته عن "صراع الحضارات"، يتميزون بالعدوانية والسادية ويتلذذون بقتل الأبرياء وتعذيبهم. وكانت الحوادث الإرهابية التي توالت إلى أن وصلت إلى ذروة البشاعة في جرائم داعش حالياً، وضحة للتصديق على تلك الصورة، وتأكيداً لـ"رُهاب الإسلام" الذي أصبح مصطلحاً متداولاً لتعميم الكراهية للمسلمين.
وبوسعنا أن نكتشف بعد 11 سبتمبر، ميلاً إلى تخصيص المملكة العربية السعودية، بمزيد من التشوية والإساءة، سواء في صدور عدد من المؤلفات والروايات والأفلام في أوروبا وأميركا، أو في تصدُّر أخبار الوعاظ والمناشط الدينية السعودية، وتخصيص مقالات وتحقيقات وبرامج، وأحيانا عديدة تصريحات بعض المسؤولين في أوروبا وأميركا.
وأظن أن رواية "عرض ثلاثي الأبعاد للملك" للكاتب الأميركي ديف إيجرز، التي تحولت على يد المخرج توم تكفر إلى فيلم سينمائي من بطولة توم هانكس بدأ عرضه في 22 أبريل من هذا العام 2016، أحد الشواهد على ما يحظى به الفضاء السعودي من جاذبية القراءة والمشاهدة باتجاه الأحاسيس المملوءة بالفزع والمسكونة بالترصد والراغبة في الفضح والإشهاد.
فالفيلم بكامله يقوم على رحلة بطله إلى السعودية، ويتنقل من مكان إلى آخر في سيارة شاب سعودي، بعينين تنمان عن الفزع، وترمقان بذهول اجتماع البداوة والثراء، وتنظران بأسى وإشفاق إلى المرأة وإلى بؤس العمال الأجانب، وبمفاجآت صادمة إلى الكذب وعدم الاكتراث للنظام. وتكون حكايته مع الطبيبة السعودية التي عالجته ثم نشأ بينهما تعاطف، بلغ ذروته لحظة أن ذرفت له دمعتها، نافذة على معاناة المرأة مع المحكمة ومع الرجل المستبد بها.. إلخ.
إنه لأمر طبيعي أن تتبادل المجتمعات الإنسانية صوراً نمطية عن بعضها بعضاً، ولكن هذه الصور المعمَّمة تصبح خطرة ومنذرة بالعدوان حين تتضخَّم وتسوء، كما تضخمت صورة اليهودي "الشرير" و"المخادع" لدى النازيين، التي مهدت للعدوان على اليهود، وكما هي صورة الأفارقة التي اقترنت باستعباد البيض لهم في أميركا.
نعم، لقد أساء المتطرفون والغلاة إلى صورتنا، وسيكونون أكبر عقبة في سبيل تصحيحها، ولكن آلة الصناعة والتشويه لمجتمعنا لا تنحصر في الغرب الأوروبي والأميركي، ولا بإضافة إيران إليه، بل تتعدى ذلك إلى بعض مراكز الفتوى الإسلامية عند أهل السنة كما حدث في مؤتمر جروزني، وإلى قطاعات حزبية قومية ودينية وطائفية داخل المجتمعات العربية.
هكذا سيكون طريق التصحيح لصورتنا طويلاً وشاقاً؛ فأولى خطواته تبدأ من الواقع ذاته وليس من صورته المنعكسة، الواقع الذي ينبغي أن يبرهن بأنظمته وتشريعاته على أننا مجتمع يحب الحياة والسلام ويرغب في أن يتبادل في ما بينه، ومع العالم، كل العالم، الاحترام والتسامح.