يذهب الاقتصادي السعودي عبدالله الشدّي إلى أنّ التداعيات الاقتصادية لواقعة تصويت الكونجرس الأميركي على ما يسمّى بقانون (جاستا) لن تكون بالسوء المتوقّع، بل إنّ الأرجح أن تكون هذه الواقعة فرصة متنكّرة تحت هيئة أزمة. يستند الشدّي في هذا الرأي على مفهوم antifragile الذي نظّر له الاقتصادي الأميركي (نسيم طالب) في كتاب يحمل عنوانا بنفس الاسم الذي من الممكن أن نستعمل (المتانة) كنظير له عند ترجمته إلى العربيّة.

تتمثّل نظريّة طالب في أنّ الاقتصادات التي لا تعبرها اهتزازات بين الحين والآخر اقتصادات معرّضة إلى سقوط مدوٍ لا يسهل التعافي منه في الغالب. بينما كثيرا ما تصمد الاقتصادات التي تنالها أزمات موجيّة من وقت إلى آخر. والسر في ذلك هو أن الطبيعة المؤسساتية للحكومات في الغالب تميل إلى الاسترخاء الذي يحول بينها وبين تصحيح مسارها ما لم تتعرّض إلى منبهات حقيقية تجبرها على مراجعة سلوكها الاقتصادي في كلّ مرة.

لا يوجد في سويسرا بنك مركزي، بل لا توجد حكومة مركزية أيضاً، ولكن اقتصادها تميّز كما هو معروف بدرجة عالية من المتانة والأمان لمدة لا مثيل لها في أي جزء آخر من العالم. يكمن السرّ في أنّ تشكُّل سويسرا من ولايات مختلفة وضع يسمح بظهور الخلافات على السطح في كل مؤتمر يجمع بينها للنقاش، وكثيراً ما يسيطر جو الاختلاف الناتج عن مشكلات صغيرة متكررة في كلّ اجتماع قبل أن يوحدها قرار نهائي يحتّمه عليها الوعي بوحدة المصير. ما يحدث هو أن تلك الأزمات المتمثّلة في مشكلاتهم الصغيرة التي لا يهدأ تيارها إلا نادراً هو ما يعطي كيانهم الموحّد مناعة من التفكك أو الانهيار عند مواجهة التحديات الأكبر والأخطر.

طبيعة الاقتصاد السويسري أحد الأمثلة التي تضمّنها كتاب طالب من بين أمثلة وشروحات نظرية عديدة.

إذن فبحسب الشدّي فإنّ "جاستا" سيكون منعطفاً إيجابياً في ما لو أحسن التقاطه واستثماره لصالحنا، لا سيما وأنّ الأمر في مجمله متعلق بخطة تسويقية انتخابية لا أكثر، ويصعب المضي في تطبيقه إلى نهاية المطاف دون كلفة باهظة ستتحملها الولايات المتحدة نفسها على الأغلب.

ما زالت السعودية تتمتّع بثقلها الجيوسياسي والاقتصادي المعروف، وما زال لديها دورها الرائد في الحرب على الإرهاب، إضافة إلى مميزات أخرى لا يغفل عنها صنّاع القرار السياسي في أميركا، ولكن ينبغي ألّا يفوّت هذا علينا التنبيهات التي لوّحت بها واقعة "جاستا" نحو تصحيح مسارنا السياسي والاقتصادي.

لو اتفّقنا على هذا الزعم فربّما علينا تتبع بعض المؤشرات الّتي تزامنت مع الواقعة، ويبدو لي أنّ من أهمها خطاب المرشحين في هذا السباق الرئاسي، وخصوصا خطاب دونالد ترامب عندما أفصح عن نظرته إلى دول الخليج قائلاً: "هم لا يملكون شيئاً خلاف المال، لن نسدّد الدين العامّ، هم من سيدفع"!

علينا أن نفهم أن ترامب وإن كان على درجة لا بأس بها من الحمق، يفهم أنّ هذا الخطاب يتناغم مع صورة نمطيّة عنّا لدى الناخب الأميركي. وهي صورة "الأثرياء الذين يعيشون حياتهم وفق نمط استهلاكيّ لا يقدّم للعالم أي إضافة علميّة أو عمليّة". ربّما لو رصدنا ما يدور في مخيال الإنسان الغربي عنا فلن نجد أقوى من هذه الصورة، سوى تلك التي تظهرنا "كمتعاطفين أيديولوجيّين مع الإرهاب على طول الخط"، ولعلّ لهذه الأخيرة دورا بارزا في انسياق أعضاء الكونجرس للتصويت لصالح جاستا طمعاً في مداعبة وترها في ذهنية من سينتخبهم قريباً.

إذن فإضافة لمسؤولية الدوافع الابتزازية عن هذه الواقعة، فهناك عامل ثقافيّ في الشارع الأميركي لم نوفّق للتصدّي له كما ينبغي. ولكن (من المهمّ ألّا تُفهم هذه الملاحظة كدعوة للتجميل المزيّف)، بل للخطاب الإعلامي المتوافق مع التفكير العلمي السليم، ولعل هذا دور مراكز الاستطلاع العلمي الجاد، المسؤولة عن جمع البيانات المتعلقة بصورتنا في العالم بأسره وليس في أميركا فحسب، ومعالجتها وفق معايير راسخة. حيث تكمن المهمّة في عزل ما نشأ عن صور تضخيمية مغلوطة من قبل مصادر الإعلام المضادّ، عن تلك التي انعكست عن ممارسات نتحمّل مسؤوليتها بالفعل. في سبيل تنفيذ الخطط التي تعمل على تلاشي هذه والحدِّ من تلك. مع الاحتراز من أن يجرّنا حماس غير مدروس إلى تقديم تنازلات قيميّة أو مبالغة في ضغط معيشيّ.

يبدو أن عصرنا يحمل تطورات تقنيّة ومعرفية تجعله مختلفا عن ذلك العصر الذي كانت تقتصر الفاعلية فيه على مخاطبة الدوائر السياسية دون الالتفات إلى ما تنبض به شوارع العواصم.

هذا إذا أردنا أن نستثمر معطيات طبائع "المتانة" التي نظّر لها "نسيم طالب" في دراسته الرصينة، وزعم أنّ من شأنها تحويل الأزمات إلى فرص مزهرة.