قبل 7 سنوات وبالضبط عند افتتاح جامعة «كاوست» كان الصوت المتطرف هو سيد الموقف في الميدان والإنترنت حيث المنابر والمنتديات، وكان الوسطيون يعيشون في غربة، ولكنهم توكلوا على الله واستعانوا به فأكرمهم جل وعلا بأن نصرهم على المتطرفين، حيث انتشرت دعوتهم اليوم في المجتمع السعودي والحمد لله، وبعدما كانوا من قبل يغردون خارج السرب، لكون البيئة العامة هي للصوت العالي من الغلاة، والتقليديين، والحزبيين من الإخوانيين والسروريين والقاعديين، وإذ بصوت الوسطيين اليوم هو الأقوى حتى بتنا نتصفح الإنترنت عموماً ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً، لاسيما تويتر، ونحمد الله على الجيل الصاعد من الشباب والفتيات الذين يغردون بالوسطية ويحبرون الهاشتاقات بالفكر المعتدل، بلا انحلال ولا تشدد، وبلا اتباع للجفاة ولا للغلاة، ويجب أن ندرك بأن أصحاب الخطاب المتطرف والسلوك الإرهابي الفكري عبر تشددهم الحزبي والمذهبي والطائفي والديني جعلوا المجتمع ينفر منهم، حتى إنهم شوهوا سمعة هذا المجتمع في الخارج، فنتج عنه الكثير من التصريحات والمواقف الغربية المعادية حتى التشريعات التي تلحق الأذى بالبلاد والعباد.
وبناء على ذلك فإن للدولة أن تتحرك نحو إعادة تشكيل المؤسسات الدينية والتربوية والتعليمية والإعلامية والثقافية وغيرها بكوادر وسطية وطنية شجاعة وحكيمة، مع دعم الوسطيين لاسيما الشباب من الجنسين الذين يشكلون غالبية الشعب، حيث إن ما لا يقل عن ثلاثة أرباع المجتمع هم دون الأربعين عاماً، ومنهم 5 ملايين طالب وطالبة في التعليم العام، ومليون في التعليم العالي، و200 ألف من المبتعثين عبر العالم، لاسيما في أميركا وبريطانيا والدول المتقدمة، وكل هؤلاء يفكرون بطريقة تختلف عن البقية، وحسبنا قول الخليفة الراشد الرابع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ربوا أبناءكم، واعلموا أنهم خلقوا لزمان غير زمانكم)، وبالتالي فينبغي أن تكون التربية متبادلة بين الوالدين والأولاد، فنربيهم على ما تعلمناه من معارف وخبرات ويربوننا على ما خلقوا له من مهارات وتقنيات، وحينما يسبقوننا فلا نمسكهم ليقفوا معنا وإنما نسابقهم لنلحقهم أو نتركهم يغردون في سرب خلقهم الله له ولكن تحت عنايتنا ورعايتنا وتوجيهنا.
الوسطية ليست باللزوم في المنتصف، كما أنها ليست مسك العصا من الوسط، وكذلك ليست في الفكر فقط، وإنما في المنهج والأخلاق والسلوك، فضلاً عن الممارسات الدينية والدنيوية، والسير حسب الفطرة التي فطرنا الله عليها، وهذا مصداق لفعل النبي عليه الصلاة والسلام فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- بقوله: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى درجة الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فمقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط؛ فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان من خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين...؛ فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة).
وطريق الوسطية صعب على طلاب الدنيا وهواة التصفيق ودغدغة العواطف، لأن متطرف اليمين يرميك بالانتكاس، ومتطرف اليسار يرميك بالتشدد، ولكن حسبك الله، فاثبت وتوكل على الله ولا تغرك كثرة الأتباع والمريدين لهذا المتشدد أو ذاك المتحلل، وكن على يقين أن الفطرة التي فطرنا الله عليها ستكون مع الوسطية والاعتدال، مهما حاول هؤلاء وأولئك ثنيها عن طريقها المستقيم.
الوسطية ليست منتسبة لأحد من الناس، لكنهم هم المنتسبون إليها، وبقدر ما يحققون مناطها ويطبقون شروطها وينتهون عن موانعها؛ تعترف لهم بنسبتهم إليها، ولا يعني أن النسبة إليها شخصية وكلية، وإنما فرعية وجزئية، فقد يكون أحدهم وسطياً في مسألة وغير معتدل في أخرى، فالحق لا يعرف بالرجال، إنما هم الذين يعرفون به في الجملة، وكل يستدل لقوله، ولا أحد يستدل بقوله، سوى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والوسطية تعني التوسط والتعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، حيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، ولا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه ويطغى على مقابله ويحيف عليه.
والحق أن الوسطية في مفهوم الإسلام منهج أصيل ووصف جميل ومفهوم جامع لمعاني العدل والخير والاستقامة، فهي اعتدال بين طرفين، وحق بين باطلين، وعدل بين ظلمين.
فالذي يُفَرّط في حق الله ويقصر في القيام به متطرف، ومثله الذي يتطرف إلى جهة الغلو والتشدد والتزمت، فيوجب ما ليس بواجب، ويحرم ما ليس بمحرم، ويكفر المسلمين ويفسق الصالحين، فيستحل دماءهم وأموالهم، ويخرج على حكامهم وأمرائهم، فيثير الفوضى ويسعى في الأرض فساداً (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.