غموض الخطاب الكتابي له أسباب كثيرة تحدث عنها الدكتور سعد البازعي والأستاذ شايع الوقيان في أكثر من موضع. الخوف من ردة الفعل الحادة من متلقي الخطاب، سواء كانوا معارضين أو حتى مؤيدين، أحد الأسباب الرئيسة لغموض الكتابة. الوقيان ذكر أسباب تتعلق بموضوع الكتابة وفرضه لمعاييره الخاصة والتي لا تتوافق أحيانا مع معايير غير المتخصص. الأسلوب أحيانا يعمل كحائل بين الكاتب والمتلقي. كذلك ذكرنا سابقا أن البحث عن مكانة اجتماعية وعن موضع للهوية الذاتية في خضم الوجود مع الآخرين قد يكون سببا للغموض. في هذه الحالة الأخيرة يقول الكاتب الغامض: أنا أعلم ما لا تستطيعون الوصول إليه. هذا الإعلان يعمل كتعبير على حضور الذات ووجودها في سياق اجتماعي لا يعترف بخصوصية ولا امتياز لهذا الحضور.

اليوم سأحاول التفكير معكم في نموذج للخطاب الغامض غموضا مختلفا ولو شكليا. هذا الخطاب هو خطاب الألغاز والأحاجي. اللغز هو سؤال غامض. سؤال من صيغة خاصة يعمل على تحقيق غرضين: الأول تحدي تفكير الطرف الآخر، والثاني ترفيه الحضور. أو بعبارة أخرى اللغز هو ترفيه قائم على تحدي قدرات الطرف الآخر الذهنية. القناة التي يتحقق من خلالها هذا الهدف هي غموض السؤال ومواربته. الغموض هنا صفة مهمة، لذا نجد أن المعلمين لا يستخدمون أسلوب اللغز في الاختبارات الدراسية، باعتبار أن وضوح السؤال أحد المعايير المهمة لسلامة السؤال واستحقاق نتائجه. الألغاز خطاب ترفيهي فهي بشكل أو بآخر لا تعبر عن تحد حقيقي. أعني بذلك أن فشل (أ) في الجواب على اللغز غالبا لا يؤدي إلى حكم ذي آثار حقيقية. فهو لا يعتبر بالضرورة غبيا، وإن اعتبر ذلك فلن يتجاوز ذلك عددا من الدقائق البسيطة. التحدي الذهني عامل جوهري للغز، فالتحدي البدني مثلا لا يعتبر لغزا. الألغاز متوجهة مباشرة إلى قدرة التفكير لتخاتلها وتقيس قدراتها.

أريد هنا تحليل هذا الخطاب الذي يبدو أن الغموض جوهري في تركيبته. إذا أردنا أن نحلل نوع هذا الغموض فهو مباشرة غموض ناتج عن الأسلوب. بمعنى أن أسلوب صياغة اللغز مبني على قدرته على الغموض، من خلال صياغة عبارات تحتمل أكثر من معنى أو عبارات تصف الأمور بطرق جديدة وغير معتادة. لكن في المقابل فإن الغموض المقصود هنا لا يمثل إشكالا بقدر ما يمثل ضرورة لقيام خطاب الألغاز. برأيي أن هناك عاملا جوهريا وأساسيا يميز الغموض في اللغز عن غيره، وهو أنه غموض واضح. أعني أنه غموض معلن ومتفق عليه. التعاقد بين صاحب اللغز ومتلقي اللغز قائم على قبول الغموض. الغموض هنا ليس أمرا يفاجئ المتلقي، بل أمر يرحب به ويتوقعه. هذا الوضوح والتعاقد الأولي له دلالة مهمة جدا في ما يخص العلاقة بين أطراف التواصل. ذلك أن وضوح الغموض في اللغز يجعل من العلاقة بين الطرفين علاقة واضحة، بينما يؤدي الغموض غير المعلن لغموض علاقة الذات بالآخر. صاحب اللغز لا يحاول أن يكون غامضا معي، فهو من البداية يقول لي العبارة الشهيرة "عندي لغز". مع هذه العبارة والتعاقد تمت تنحية الأهداف الأخرى من الغموض. الأهداف الأخرى تقلق الطرف الآخر، باعتبار أنها تحيل لاحتمالات غير مرغوبة، منها أن المتحدث خائف ولا يستطيع التعبير بصراحة، أو أن المتحدث له أغراض أخرى من الخطاب غير التواصل المباشر والصريح معي، أو أن المتحدث لا يجيد التعريف عن نفسه.

لكن خطاب الألغاز والأحاجي ليس مريحا للجميع كذلك. نستطيع تصور أسباب عديدة لذلك، منها احتواء فكرة اللغز على الحكم على الطرف الآخر، ولو كان حكما بدون آثار عميقة. هذا الحكم قائم على فكرة التحدي الذهنية التي تحدثت عنها في بداية المقال. من يستطيع أن يحل اللغز عادة من يتم تقدير ذكائه وسرع بديهته وعلى العكس من يفشل في حل اللغز. هذا الحكم حتى وإن كان حبّيا ولطيفا إلا أنه قد يقلق بعض الأشخاص ويثير حساسيتهم تجاهه. التقييم والحكم عملية تحمل في طياتها ممارسة للسلطة من الذات تجاه الآخر. الخطاب التواصلي بينهما يبدو كجلسة تقييم تتولى فيه الذات مهمة إصدار الأحكام. هذا المشهد لا يبدو مريحا للبعض، خصوصا ممن لا يستطيعون لأي سبب من الأسباب، قلب المشهد وممارسة التقييم العكسي على صاحب اللغز وقدراته.

المهم هنا برأيي هو أن الغموض في الكتابة يرتبط تأثيره بتوقعات المتلقي من الكاتب. حين يتوقع المتلقي الغموض ويصبح الغموض واضحا في علاقة الذات بالآخر فإن تأثير الغموض ينخفض بدرجات ملاحظة. يبدو لي أن الفرضية الأساس في علاقة الذات بالآخر هي الوضوح. بمعنى أنني حين ألتقي بطرف آخر فإنني أتوقع منه الوضوح في الخطاب. اللغز يبدو متسقا مع هذه الفرضية، فصاحب اللغز واضح في شرح العملية التي سيدخل فيها مع الطرف الآخر. صاحب اللغز يعلن أن "عنده لغزا". موافقة الطرف الثاني شرط في اكتمال مشهد اللغز. الغموض الذي يربك علاقة الذات بالآخر هو الغموض الغامض. أو الغموض الذي لا يعلن عنه. هذا الغموض له أبعاد أخرى منها استفزاز القارئ أو استثارته.