جلست أطالع في الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال إلقائه كلمة فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا، وهو يطالب بريطانيا بأن تعتذر للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور المشؤوم عام 1917، الوعد الذي سلّمت بموجبه بريطانيا فلسطين لليهود.
ربما يبدو مطلب مثل هذا شجاعا وقويا في مواجهة دولة عظمى مثل بريطانيا، لا سيما إذا كان من يطالب به رئيس دولة مستلبة، لم يبق منها إلا بضع مدن صغيرة جميعها تقع تحت تصرف دولة الاحتلال التام، تضرب حولها طوق عزلة خانقة في غياب أي سيادة وطنية لها، أو حتى أي اعتراف بكونها مشروع وطن محتمل.
لكن، يبقى السؤال: هل الاعتذار هو ما ينبغي أن نطالب به بريطانيا على منصة الأمم المتحدة؟ هل الاعتذار هو غاية طموح حكومتكم يا سيادة الرئيس؟ هل يكفي اعتذار في مقابل سرقة وطن وتهجير نحو 14 مليون فلسطيني وتشريدهم في بقاع الأرض على مدار 68 سنة؟ هل اعتذار بريطانيا يكفي في مقابل قائمة المذابح التاريخية التي ذهب ضحاياها عشرات الآلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني، مجازر لم ينج منها رجل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير، بل إن أبشعها ارتكب في حق أطفال في فلسطين في مسعى من دولة الاحتلال للتكريس لفلسفة موت جديدة تقوم على قتل المستقبل في صورة قتل أطفال فلسطين؟
هل الاعتذار يكفي مقابل الخراب والدمار اللذين ألحقتهما دولة الاحتلال بالمدن الفلسطينية، والاستيلاء اليومي من قبل قطعان المستوطنين الإسرائيليين على أراضي الشعب الفلسطيني وبيوته، بمباركة من دولة الاحتلال وراعيها الرسمي بريطانيا؟
أتصور أنه كان هناك أكثر من الاعتذار لنطالب به بريطانيا يا سيادة الرئيس محمود عباس، فلا يليق أن تحصل نساء المتعة في كوريا على تعويضات من الحكومة اليابانية عن جرائم استرقاق جنسي تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية، ثم لا يحصل الفلسطينيون من دولة تسببت في تشريدهم في الأرض وقتلهم وسلب وطنهم سوى على اعتذار؟
فماذا لو اعتذرت بريطانيا سيادة الرئيس، وهو لن يحدث بالطبع؟ فاعتذار بريطانيا اعتراف رسمي بعدم شرعية دولة الاحتلال الإسرائيلي؟ ودولة مثل بريطانيا لن تقدم على خطوة من هذا النوع، لذا كان من الأولى أن نقر نحن هذا الواقع ونتهم بريطانيا علانية بتواطئها مع دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني الذي لا يحتاج واقع تهجيره وقتله منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم إلى دليل، فجميع العالم يعرفه، وبالمستندات التي ما من شك في أنها تتوافر في أيدي السلطة الفلسطينية وأهالي فلسطين، وبمئات الصور ومقاطع الفيديو التي توثق المجازر التي ارتكبتها دولة الاحتلال، بإمكان السلطة الفلسطينية اليوم أن تقاضي بريطانيا أمام المحاكم الدولية، ولن نعدم من يقف إلى جانب قضيتنا العادلة من شرفاء العالم، وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن بعضا من قيادات دول أوروبا وكبار الشخصيات والمفكرين والكتاب حول العالم يعلنون عن مواقفهم الرافضة لممارسات دولة الاحتلال، ولفكرة وجودها على حساب حق الشعب الفلسطيني في الوجود.
بإمكانكم يا سيادة الرئيس أن تتحركوا بجدية قانونيا لدى كثير من المحاكم والجهات الراعية لحقوق الإنسان، وما أكثرها في هذا العالم، وكثير منها مناهض لدولة الاحتلال بالمناسبة، لتدفعوا في خط مقاضاة بريطانيا على جريمتها التاريخية، وطلب تعويضات مالية منها، والشعب الفلسطيني المنتشر حول العالم سيكون عونا وسندا لكم، بل إن كثيرا شعوب العالم ستقف إلى جانب قضيتكم، وما من شك في أن مثل هذه الضغوط ستحقق كثيرا من النتائج على المديين القصير والبعيد، لكن أن نترك دولة الاحتلال ترتع في أراضينا، وقطعان مستوطنيها تبتلع أراضي الشعب الفلسطيني، ثم نذهب لمطالبة بريطانيا بالاعتذار، فهذا إهدار لحقوق الشعب الفلسطيني، وفرصه في ملاحقة جميع مجرمي الحرب الذين سهلوا لدولة الاحتلال هذه الجريمة التاريخية التي دفع الشعب الفلسطيني وجوده كله ثمنا لها.
سيادة الرئيس: لن تعتذر بريطانيا، ولن يعتذر أحد للشعب الفلسطيني في هذا العالم إلا مجبرا ومحاصرا بأدلة جرائمه، حينها سيكون مجبرا أمام شعبه وأمام شعوب العالم الحر بالاعتذار، حتى لا يفقد هؤلاء مصداقيتهم أمام شعوب ربما لم يرق إلى أسماع وأبصار قطاع عريض منهم شيء عن قضية الشعب الفلسطيني العادلة، ولو وجد من يوصل هذه الجريمة الإنسانية باحترافية إليهم لكنا أمام واقع مختلف، ولكان بإمكاننا أن نقف اليوم على منصة الأمم المتحدة ونحن نطالب بتعويضات لكل من طالته يد العدوان الإسرائيلي بالقتل أو السجن أو السلب أو التهجير، ولما كان كل همنا أن نحصل على اعتذار بريطانيا أو غيرها، فاعتذارهم لم يعد يساوي شيئا، وأكبر دليل على ذلك اعتذار توني بلير للشعب العراقي.
الأمر أصبح بالنسبة للقوم أقرب ما يكون إلى أداء مشهد باهت يمتصون به غضب شعوب العالم الحر، أما نحن فلا قيمة لنا عندهم، ولن تكون لنا قيمة ما دام أقصى طموحنا أن يعتذروا لنا.