قلت سابقا إن الولايات المتحدة، وإن بدر من بعض ساستها وإعلامييها المرة تلو المرة، الدعوة إلى تقسيم السعودية إلا أن المرجح لدي أن المشروع الحقيقي لهم تجاه بلادنا هو التقزيم وليس التقسيم، والمقصود بالتقزيم إنهاء دور المملكة في محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي ومن ثم العالمي، وتصييرها دولة هامشية أو أقل من ذلك.

ولا أشك أن هذا المشروع لو نجح فإن مآلاته سوف تذهب بالبلاد إلى ما هو أشد خطرا من التقسيم وهو الفوضى اللامتناهية، إذ إن القضاء على دورها عالميا لن يتم إلا بإضعاف إمكاناتها الداخلية والقضاء على هيبة سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا لا يتم إلا بتقويض الإيمان بشرعيتها، وإظهار عجزها اقتصاديا عن النهوض بأعباء مؤسساتها ومواطنيها، وكذلك إحداث المسافة وتوسيعها بين المواطن والدولة، وجعل كلا الطرفين في شك وتوجس دائم من الآخر، فلا الدولة تأمن المواطن ولا المواطن يأمن الدولة، وبذلك تزداد الإجراءات الأمنية والرقابية وتتعقد حتى تصبح الحياة شرا لا يطاق، مما يجعل العقول والقلوب والهمم متحفزة ومستجيبة لأي خطاب ثوري ينتهي بالبلاد إلى إحداث الشغب ثم الفوضى، كما حصل في العراق وسورية وليبيا، وكما كان مخططا لإيقاعه في مصر، وبهذا تصبح البلاد رهنا لما تريده الدول العظمى من تقسيم أو احتلال، أو انتداب، أو سم ما شئت من الحلول التي سيقترحها الأجنبي ويفرضها في الوقت الذي يريده.

هذا هو التقزيم، وهذه هي مآلاته، وقد شهد الأسبوع الماضي إقرار القانون المسمى جاستا، وهو أحد التحركات الرامية إلى تقزيم السعودية، وبالرغم من أن بعض أعضاء الكونجرس صرح بأن القانون لا يستهدف دولة بعينها، وبالرغم من أن البعض لدينا صدقوا مثل هذه الإيهامات، اعتمادا على أن السعودية لم تذكر بالاسم إلا أن القانون برمته لم يوضع إلا من أجل السعودية، وهذا واضح جدا من تاريخ القانون من حين كان فكرة حتى تم نقض الفيتو الرئاسي ليصبح قانونا، ومن حركة الإعلام الأميركي، ومن تصريحات سياسيين كثر لا زالوا بالرغم من كل براهين براءة السعودية يلهجون باتهامها.

وقد قرأت لكثيرين يعزون هذا القانون إلى المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها أميركا والتفاتها إلى الرصيد السعودي لحل مشكلاتها، وهو عزو ممكن وضعيف في الوقت نفسه، أما كونه ممكنا فلأن فرصة نجاح الدعاوى الوحيدة هي أن ترفع أولاها لدى قاض مغمور ومرتش فيحكم ضد المملكة، وبما أن النظام القضائي في الولايات المتحدة يعتمد على السوابق القضائية كمصدر للأحكام فسوف تأخذ بقية الدعاوى التي تليها الحكم نفسه، أما كونه ضعيفا، فلأن من السفه الاقتصادي أن تضحي دولة رأسمالية كأميركا بمصدر اقتصادي دائم، كالسعودية يضمن لها تدفقا ماليا مستمرا عبر الاتفاقات الضخمة للتجارة والاستثمار والتسليح من أجل صفقة مالية محتملة ولو كانت كبيرة، كما أن التعديلات التي أجراها الكونجرس في تصويته الأخير على القانون، تؤكد المغزى السياسي وليس المادي منه -وإن كان المغزى المادي يظل قائما-، وهو تعديل يتيح للجهات العدلية إيقاف الدعوى،

إذا ما شهد وزير الخارجية بأن الدولة المدعى عليها تقيم محادثات سلمية مع الولايات المتحدة، وهذا يعني أن لأميركا إبقاء سيف الدعوى مسلطا سنوات عديدة من أجل ابتزاز الطرف الآخر، ليس ماديا وحسب، بل دبلوماسيا وتجاريا وقيميا.

السبب الأهم في نظري هو ضم هذا القانون إلى حزمة من الإجراءات لتقزيم السعودية، وهو هدف تعتقد الجهات الضاغطة باتجاه القرار أنه متحقق حتى لو فشلت القضايا المقامة ضد السعودية، ومعلوم أن الجهات الضاغطة على قرارات المجلسين لا يهمها الأضرار التي قد تقع على الولايات المتحدة، ما دامت ترى أنه يحقق المطلوب منه ضمن أنشطة أخرى لتقزيم السعودية.

ومن هذه الأنشطة ما يهدف لتقزيمها أيديولوجيا، أو اقتصاديا أو سياسيا، وهي أغراض متداخلة بحيث لو نجح التقزيم الأيديولوجي لنجح معه التقزيم السياسي والاقتصادي، وهكذا في البقية.

ومحاولات التقزيم الأيديولوجي اتضحت ولا أقول ابتدأت من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تمت محاصرة المشروع الدعوي السعودي عبر التضييق على الملحقيات الدينية السعودية ومكاتب الدعوة ورحلات الدعاة والمساجد التي أسسها سعوديون والمعاهد الشرعية، والتي قال عنها جواد ظريف -وصدق وهو كذوب- إنها بلغت عشرات الآلاف حول العالم، وكذا الهيئات الإغاثية التي تعرضت لدعاوى في المحاكم الأميركية ثم صدر بحقها أحكام براءة كمؤسسة الحرمين.

كما اشتغلت آلة الضغط الإعلامية الأميركية والغربية على محاولة الدفع بالمملكة للتخلي عن خصوصيتها الدينية، هذه الخصوصية السلفية التي وصفها فرانسيس فوكوياما بأنها هي وحدها التي ستستعصي على مشروع العولمة الأميركي، وتضامن مع الدفع الأميركي ضد خصوصية المملكة الكثير من الأقلام السعودية التي تؤمن بالحل الليبرالي، وكذلك المؤسسات الإعلامية المملوكة لسعوديين لديهم تلك القناعات، وكل ذلك في سبيل إضعاف السعودية كدولة تملك أيديولوجية استطاعت أن تؤثر على مئات الملايين من المسلمين في العالم، حيث تطمح الولايات المتحدة -كما تؤكد ذلك عدة تقارير صادرة عن مؤسسات بحثية- إلى نزع ثقة هؤلاء الملايين في العالم من السعودية كحامية للدين وقائدة للأمة الإسلامية.

وقد تعاملت الحكومة السعودية منذ ذلك التاريخ مع هذه الضغوط بشيء من المجاراة التي لا تخرج بالسعودية عن مبادئها، ولا توقعها في مواجهة حادة مع السياسة الغربية، إلا أن الضغوطات الإعلامية والحقوقية والدبلوماسية لم تتوقف لدرجة أن أي لقاء رسمي غربي بمسؤولين سعوديين لابد أن تطرح فيه مطالبات بإلغاء بعض العقوبات الشرعية كالجلد والرجم والقتل والعديد من القضايا المتعلقة بالمرأة وحرية التجارة وما يسمونه الشرطة الدينية، وغير ذلك.

إلا أن المملكة بالرغم من استمرارها في سياسة المجاراة إلا أنها كلما بلغت الضغوطات أوجها أظهرت موقفا يعكس شدة تمسكها بأصولها الفكرية بشكل يغيظ الجهات الضاغطة بشدة .

ففي عام 1412 وفي ظل ضغوطات كبيرة بعد أحداث 11/9 تطلب بالتغيير الثقافي للمملكة صدر النظام الأساسي للحكم الذي يبدأ بالنص على دستورية القرآن كمبدأ عام ثم يمضي ليجعل من الشريعة حاكما عمليا على كل تصرفات الدولة.

وفي العام الماضي والذي قبله حيث يعدان بحق من أكثر الأعوام التي تعرضت فيها السعودية لضغوطات غير معقولة لدفعها نحو التغير الأيديولوجي، شهدنا عدة خطابات عليا تؤكد على خصوصية المملكة وتمسكها بالعقيدة، وسيرها على منهج السلف، وكان من أبرز تلك المواقف كلمة وزير الخارجية في قمة التنمية المستدامة، حيث أعلن تحفظ السعودية على كل ما يخالف الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا من نتائج القمة.

ويقع ضمن محاولات أميركا التقزيم الأيديولوجي للمملكة أنه بعد محاصرة المؤسسات الدعوية والإغاثية السعودية لم تمانع الولايات المتحدة، بل شجعت إيران على أن تأخذ جميع المواقع التي كانت تعمل فيها المؤسسات السعودية، والتي كان عملها مقتصرا على التعليم والإغاثة في كل تلك المواقع، بينما جاء العمل الإيراني متوجها إلى صناعة أقليات مذهبية في كل البلاد التي نشطوا فيها، وتوجيهها للعمل السياسي بل والعسكري أيضا، ويمكن التمثيل لذلك بالأقلية الشيعية التي صنعتها إيران في نيجيريا وغانا، ولم تكترث الولايات المتحدة بأنباء القبض على شحنات من الأسلحة يتم تهريبها لهذه الأقليات، كتلك التي تم ضبطها العام الماضي في جامبيا والسنغال متوجهة إلى نيجيريا.

وقد نجحت الأقلية الشيعية المصطنعة في خوض المعترك السياسي والفوز به في جزر القمر، حيث فاز المتشيع عبدالله سامبي بالرئاسة في الدورة السالفة، والجدير بالذكر أن السعودية قبل أحداث 11/9 كانت تغطي مساعداتها نصف الدخل الوطني لجزر القمر، فلما حوصرت المؤسسات السعودية ترك المجال عمدا لإيران من أجل استكمال دائرة التقزيم.