كسر كوبرنيكوس الغربي ما بنته الكنيسة في عقول الناس بأن الأرض مركز الكون والأجرام السماوية تطوف حولها، رغم اقتراب ابن الشاطر العربي من مثل هذه المسألة، لكنه الخوف من العمائم قتل إمكانية التفكير خارج المألوف الديني، وما حصل لكتب ابن رشد من إحراق ليس ببعيد للمعتبرين، لتسير دفة الحضارة بشكل غفل عنه المسلمون، واستثمره الغرب يتعلم من أخطائه وينهض، ففترة محاكم التفتيش كانت ثمناً لما بعدها، والثورة الفرنسية كانت ثمناً لما بعدها، والحرب العالمية كانت ثمناً لما بعدها، ويبقى العالم كانتونات بقدر ما هي مفتوحة بالعولمة موضوعياً، بقدر ما هي تقاوم وجدانياً، لتعيش وفق مشوارها الحضاري الخاص، وما يؤلم بشدة أن نكتشف أن مشاريع النهضة العربية كإدمان عمليات التجميل، وقد استهلكنا النهضة بمشاريع البوتكس، عجزاً عن الاعتراف بأن العربة القديمة التي يجرها الحصان، لم تعد لغة العصر الحديث الذي تجاوزت فيه الطائرات سرعة الصوت، ولن يسلي الناس قول خبراء البوتكس: إن الحصان ما زال معيار قوة السيارة الحديثة.

من حقنا السؤال عن الفرق مثلاً بين الشعب المصري والشعب الألماني، فقد كانت القاهرة قبل مئة سنة تاج المدن العربية، وألمانيا شريكة في الحرب العالمية الأولى، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتطحنها بعاصمتها وتدمرها تدميراً، ليمضي الزمن فنرى ألمانيا الآن أفضل من ذي قبل، بينما القاهرة لم تعد تاج المدن العربية بالمعنى القديم، وإن كانت القاهرة بل مصر كلها ستبقى قلب العروبة النابض ومنبع الحضارة، ولكن المقال يناقش واقع الحال، لا واقع الشعور القومي تجاه مصر والقاهرة، أعود فأقول: لماذا القاهرة لم تعد كما كانت قبل مئة سنة مهبطاً للعمال والباحثين عن لقمة العيش، وألمانيا استطاعت التعافي من حربين عالميتين، بينما غيرها من مدن العرب تغرق في شبر من أزمة اقتصادية أو اجتماعية دون حرب.

ألمانيا دولة عاشت نموها الطبيعي فهي جزء أصيل من الحضارة الغربية، وعقلها الثقافي يعتبر من أساسات الفلسفة الغربية وعلومها (كانط، هيجل، فيورباخ، ماركس، نيتشة، فيبر، انشتاين) وغيرهم كثير في كل المجالات العلمية الحديثة التي تحدث فارقاً على الأرض، من فلسفة السياسة والاقتصاد إلى فلسفة علم الاجتماع والأخلاق، ومن لقاحات شلل الأطفال والكوليرا إلى القنابل الذرية، أما الروحانيات فالبوذي في صحراء التيبت سعيد بخلاصاته أمام هيكل بوذا كسعادة المسيحي في روما أمام الصليب، لا فرق في طمأنينة الضمير الديني إلا في شكل الطقوس.

لنقرأ معاً مقالا يوضح لنا سر هشاشة ازدهار مصر قبل مئة عام لتصبح مهبطاً للباحثين عن العمل من دول الجوار، ثم زال عن وجهها المكياج الحضاري ولم تعد كما كانت، بخلاف ألمانيا التي صمدت، المقال قبل مئة عام وسنتين في الصفحة الثالثة من صحيفة القبلة العدد 115 من يوم الإثنين الموافق اليوم السابع من ذي الحجة لعام 1335، وأعتذر عن الإطالة في الاقتباس لكن لما فيها من تاريخ يستحق أن يطلع عليه العقلاء أوردها نصاً كما يلي: (الشكوى القائمة في مصر من اندفاع ناشئتها وراء الوظائف تاركين ولوج أبواب العمل الموجودة في بلادهم، والتي يقصدها الغريب بلغته، الضعيف بثروته، النشيط بهمته، فينال منها كل صنوف الخير...... وقلنا يا لله العجب كيف أن اليوناني يأتي من بلاده خالي الوفاض جاهلاً بلغة البلاد وأحوالها فلا يلبث أن يكون أحد القائمين على استثمار أرضها والاستفادة من ريعها، بينما أهل البلاد الأصليون يتزاحمون على وظائف تافهة يضطرون معها إلى الظهور بمظهر الترف والجدة مع أن رواتبهم لا تكفي لسد حاجتهم الضرورية، وكان أولى بهم أن يندفعوا في تيار العمل الحر فيخدموا بلادهم...... إن هذه الحالة أصبحت لا تطاق وهي تزيد الشر في أسلوب التربية وفي مستقبل الثروة وفي حسن السمعة، وما أعظم الفرق بين قوم تربى أفرادهم على الجري وراء الآمال الكبيرة بالهمم العالية واقتطاف ثمرات الجهد من أعلى أغصانها وبين من يرضى بالمظاهر دون الحقائق، ويظن التمدن يكون بلبس أزياء المتمدنين دون العمل فيما حصلوا به على درجتهم العالية ومستواهم المحترم في المجتمع البشري، إن المدنية والثروة والسعادة لم يحصل أحد عليها بهذه المظاهر، بل بالسعي المتواصل في الطريق المؤدي إليها، وهذا ما يأمرنا به ديننا المعلوم أنه دين السعي والعمل).

قرأت المقال على صفحة الصحيفة المهترئة القديمة وأصابني الخدر، وقليل من الفزع، لأنه قبل قرن من الزمان، فالمشكلة الحضارية مشكلة عربية قديمة، والمدنية الحقيقية تحصل بالاستثمار في الإنسان تجاه أرضه، ونهضة بلده، وليس بالاستثمار في الإنسان تجاه تغذية جسد السلطة بالموظفين، فالسلطة في الوطن العربي تتضخم بالتكتل داخلها على حساب الإنسان خارجها، لوجود فكر الاستزلام بالسلطة وعبرها، فالدولة بدلاً من أن تكون ضمانا للشعب، أصبحت ضمانة داخلية لأوليغاركية بدائية تجيد وضع مكياج الحضارة، لنراها كيانا متداخلا مع مظاهر ما قبل الدولة من قبيلة ووجدان بدائي، ولن نأتي بجديد إذا قلنا: إدارة الأفراد قشور حضارة، أما إدارة المؤسسات عبر فصل السلطات الثلاث بنظام دستوري يضبط السلطة لصالح الناس ولصالح مصالحهم البسيطة في الحياة الكريمة، لتجد المواطن شرقاً وغرباً يعيش حراً كريماً، وهو ينظر للوزير كموظف وضع لخدمته والوزير يستشعر هذه المسألة بكامل حمولتها إلى حد تقديم الاستقالة في الغرب وحد الانتحار في الشرق (اليابان مثلاً)، ولهذا من حق العقلاء أن يصادقوا على كلمة المسؤول العربي إن قال: إن أزمة كذا أو كذا هي أزمة فكر، لكنها قطعا أزمة موجودة بالتساوي وبلا استثناء في عقل المسؤول والسائل.