عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة في الرابع والعشرين من أكتوبر 1945في مؤتمر دومبارتون أوكس، بسان فرانسسكو، وضع الجميع آمالا عريضة على المنظمة الجديدة التي حلت مكان سابقتها، عصبة الأمم، لتسهم في وضع حلول جذرية للمشكلات المشتعلة في العالم، الذي كان خارجا للتو من حرب ضروس بلغ عدد ضحاياها الملايين. وتواصلت إخفاقات المنظمة الدولية، وفشلت في حل المشكلات التي عانى منها العالم، واستمرت الحروب والمواجهات، ولم يتمكن قادة العالم الجديد من وضع بصماتهم في المشكلات المتجددة، إلا في حالات نادرة، لم يكن طرفها إحدى القوى الكبرى.
وتكمن الأسباب الجوهرية لهذا الفشل في آلية التصويت التي أُقرت في مجلس الأمن الدولي، الذي يمثل أحد أهم أدوات المجتمع الدولي القادرة على استخدام آليات حقيقية لإنفاذ القرارات، لأسباب متعددة، في مقدمتها أن الآلية نفسها وضعت وفق حسابات المنتصر والمهزوم، فمنحت الدول الخمس الكبرى الفرصة للتحكم في مصير الدول الأخرى، عبر استخدام حق النقض "الفيتو"، الذي صارت تلك الدول تستخدمه لتحقيق أهدافها الخاصة، وتمرير مصالحها، دون النظر لاعتبارات الحق العام أو العدالة الدولية. وفيما منحت الدول الكبرى هذا الحق، فإن قارات كاملة، مثل إفريقيا حُرمت منه، كما تفتقر إليه الدول الإسلامية التي يبلغ عدد سكانها قرابة ثلث سكان العالم.
حتى رئاسة المنظمة الدولية، لم يتسلمها سوى أوروبيون ينفذون سياسات مرسومة بدقة، أو أفارقة على الطراز الأوروبي، إن جاز التعبير، حتى عندما جلس وزير خارجية مصر الأسبق، بطرس غالي، على كرسي المنصب المذكور، وصدرت عنه تصريحات وتصرفات تشير إلى وقوفه بجانب الحق الفلسطيني وقضايا بعض الدول الأخرى ثارت الدول الكبرى عليه، ووضعت المتاريس في وجهه، وتم استبعاده فور انتهاء ولايته الأولى، رغم أن الغالبية العظمى من الأمناء العامين الذين سبقوه والذين خلفوه جلسوا على المنصب ولايتين كاملتين.
في السنوات الأخيرة تزايد إخفاق المنظمة الدولية المرموقة، وافتقدت بريقها، واقتصرت مهام أمينها العام على "إبداء القلق العميق"، والشجب والاستنكار، ولم تعد اجتماعاتها العامة تجتذب حتى اهتمامات المواطن العادي، وباتت مناسبة فقط لالتقاط الصور التذكارية، وعقد اللقاءات الجانبية التي تشهد إبرام صفقات سياسية وتجارية.
حتى المنظمات التابعة للمنظمة، التي يفترض أنها أدواتها لتسهيل أداء دورها الإنساني والحقوقي، باتت تفتقر للقدرة على أداء ذلك الدور، بعد أن تحكمت فيها الدول المانحة، وباتت مواقفها وقراراتها وتقاريرها تصدر وفق مصالح من يدفع أكثر، وليتها بقيت على ذلك، فقد حاولت استغلال الدعم السعودي المتواصل لبرامجها، وإصدار تقارير تصب في مصلحة أعدائها، كما تنكرت أحيانا للأيادي البيضاء للمملكة، مما دعا ولي العهد إلى إعلان الحقيقة في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، حينما أثبت بالدليل القاطع والأرقام التي لا تكذب أن الرياض هي أكبر متبرع للمنظمات الخيرية والإنسانية، وهي الحقيقة التي اضطرت المنظمة الدولية للاعتراف بها.
وكان الموقف السعودي الحازم برفض عضوية مجلس الأمن الدولي، ومطالبة المملكة بتغيير آلية عمل المنظمة، وإيجاد حلول فورية لمشكلة فلسطين، التي تسببت فيها الدول التي تمتلك ناصية القرار الدولي، وحل أزمة سورية، بمثابة صفعة قوية على وجه ذلك النظام الدولي المتهالك، حيث أعربت معظم دول العالم عن دهشتها من ذلك القرار اللافت، وأبدى آخرون إعجابهم بوضوح الموقف السعودي، وسار آخرون على نهجه، حيث رفضت بعض الدول الأخرى الترشح للمنصب الذي رفضته المملكة، دعما للموقف السعودي وتأييدا له، ورفضا لأداء دور شاهد الزور.
وإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت بلوغ المنظمة الدولية قمة فشلها، وانفراد الولايات المتحدة وحلفائها بمفاصل القرار العالمي، واكتفائها بالفرجة على الجيوش الأميركية والبريطانية وهي تغزو العراق وتتحكم في مستقبله ومصيره، دون قرار دولي، فإن العالم اليوم يشهد فترة الجنوح الروسي، ويكتفي بإدانة الطائرات الروسية وهي تقصف المدنيين الأبرياء في سورية بالقنابل العنقودية والصواريخ القاتلة، دون ذنب جنوه، إلا أنهم وقفوا في وجه نظام الأسد، وتمسكوا بحقهم في اختيار حكامهم، وهو ما أغضب الدب الروسي الذي لم يجد في المنطقة من يحالفه سوى محور الشر القديم.
لم تتدخل المنظمة الدولية في قضية إلا وكان الفشل حليفها، والإخفاق مصيرها، وإذا كانت تريد لقراراتها النجاح فلا بد من تغيير آليتها، وتمليك القائمين عليها الفرصة في إقرار العدالة، والتعامل مع الجميع بروح القانون والمساواة، بعيدا عن المصالح الخاصة والصفقات السياسية، تأكيدا لسيادة القانون، وإعلاء لقيم الحق، فالعدالة لا تتجزأ، وأنصاف المواقف لا تعيد حقا لمظلوم، ولا تقيم نظاما عالميا، يأخذ فيه القوي بحق الضعيف، أما إذا اختارت السير على منهجها الحالي فسوف يعود العالم إلى قرون متأخرة، تسود فيها شريعة الغاب ويغلب عليها منطق القوة.
وحتى تعود الدول الكبرى إلى هذا الحق، وتكف عن تقديم مصالحها، وإشعالها للحروب، خدمة لمصالح تجار أسلحتها، لا ينبغي أن نقف موقف المتفرج، وننتظر أن يجود علينا الآخرون بحقوقنا، لأن الحكمة الخالدة تقول إن الحقوق تُنتزع ولا تعطى، وأن من يضيع حقه لا يجوز له أن يلوم الآخرين على عدم إعادته، وفي أيدينا –كأمة عربية وإسلامية -من الوسائل السياسية والاقتصادية ما يمكننا، إن استطعنا استخدامها بفعالية، أن يعيدنا إلى عصور قوتنا وأيام مجدنا.