يطلق أهل مكة المكرمة على من توفاه الله في أيام انشغالهم بأعمال الحج قولا قديما هو:" فلان راح فَرق عُملة"، وذلك بسبب أن الناس لا تسمع بوفاته إلا متأخرا، ومن سمع قد لا يتيسر له التعزية فيه. إلا أن رحيل معالي الدكتور محمد عبده بن عبدالله يماني ـ رحمه الله ـ طغى على كل خبر، ولا غرابة، فالراحل منذ نشأته إلى مماته، وهو ينمي أرصدته، ويزيد من استثماراته عند خالقه. شخصيا رغم حزني على فقد الدكتور، إلا أني أغبطه على خاتمته، والسبب هو الرصيد الذي أجملته، والاستثمار الذي تركت تفصيله، ولذا لن أرثيه حزنا، ولكن سأتحدث عنه ببعض "ذكريات عبرت أفق خيالي"، وبما يمكن أن يشبه ما تعارف عليه أهل الاختصاص، وسموه: بـ "الإخوانيات"، ولو جاز لي لسميتها بالأبويات. وـ للعلم ـ (الإخوانيات) نوع قديم من أنواع النثر والشعر، ازدهر في العصر العباسي، وليست له مواضيع محددة.
تعرفت على الفقيد في الجلسات العلمية بمكة المكرمة، وتوطدت العلاقة به في السنوات الأخيرة، وشاركت وشهدت (بنفسي) على ما تضيق به مساحة المقال؛ الدكتور ينصت كثيرا لمن يكلمه، ويقتنع بحديثه، وإن ظهر له خلاف ما اقتنع به ولو متأخرا غير رأيه. لا يحب أن يقول لمن يستشيره "لا"، ويحرص بكل ما يملك من خبرة على بث الطمأنينة في قلوب من حوله. مرة قابله شخص وأنا معه، وطلب منه مسألة تبدو غير منطقية، وبعد أن طمأنه الدكتور، قلت له يا معالي الدكتور هل طلبه معقول؟ فقال لي: "مهمتنا أن نبث الطمأنينة في قلوب الناس، وعلى الله وحده قضاء الحوائج". يسعى للصلح، ويفوض غيره لذلك، وكم مرة فوضني مع من أتعبه، ويقول: " لا بد للحصول على الأجر أن تتحمل التعب في ذلك".
مما شدني في تعزية الناس بفقده أن الكل كان يعزي، ويتقبل العزاء فيه، والذي استوقفني كثيرا أن الناس من مختلف الأطياف الفكرية، والمذاهب الدينية من الداخل والخارج اتحدت في الشعور بالحزن على فقدانه، لأنه كان قاسما مشتركا بين الكل. ومن الأشياء الغريبة أن مجموعة كبيرة من الناس حظوا باتصال منه صبيحة يوم دخوله للمستشفى، وكأنه أراد أن يودعهم الوداع الأخير. له قصص جميلة مع آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكم مرة طلب مني أصحاب الحوائج منهم، وأرسل لي متفقدا ومعينا، خاصة بعد أن كلفت رسميا بنظارتهم.
كنت أعجب من حرصه البالغ على مراجعة من يثق فيهم لبعض مسودات مؤلفاته، أو فقرات حلقاته، وكان يقول: "من الإحسان أن تكرم من يقرأ لك، ومن تبرع بوقته لمشاهدتك". الدكتور بطبعه اجتماعي، وانعكس ذلك عليه في دعوة الناس لرحلات مبرمجة للمدينة المنورة، مرورا بمحافظة بدر، وخلالها كان يحدثهم عن مراحل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المكية ودور السيد خديجة، والمرحلة المدنية ودور السيدة فاطمة رضي الله عنهما. وكان يحب حضور الجلسات العلمية والثقافية المختلفة، ولا يمكن أن أنسى تردده بدون موعد لدرسي العلمي، وإسعاده الحضور بتعقيباته العلمية الرائعة.
انتقال معالي الدكتور محمد عبده يماني إلى الرفيق الأعلى ترك (فراغا كبيرا جدا) في الأقارب والأباعد، والعزاء أنه ترك خلفا صالحا ـ أخا نبيلا، وأختا حنونا، وزوجا صبورا، وأبناء وبنات بررة، وأصهارا فضلاء ـ سيحققون له بأمر الله أمانيه العريضة، ووعوده الطيبة لمن أحبهم وأحبوه. اللهم ارحمه، وأخلفه على الناس بخير.