لست خبيراً في الاقتصاد، ولم أمش يوماً في دهاليز السياسة، لست بصاحب فضيلة ولا مثقف نخبوي، لست خبيراً في فنون الإدارة ولم يستضفني الإعلام يوماً بصفتي محللا إستراتيجيا ولا رياضيا أو حتى معالجا روحيا، وفي الحقيقة هي أشياء كثيرة لستها. في المحصلة لست إلا مواطنا ضمن جموع المواطنين يجلس على هذا الرصيف بجانب جموع الجالسين، أزاحم قطط الشوارع وأدور حول أعمدة الإنارة، أراقب ما يجري وأحاول بإصرار أن أفهم إلا أنني لا أستطيع، فأسأل الجالسين هنا: هل فهمتم شيئاً؟ فيجيب الكل بـ"لا"، إلا أحدهم هناك دائماً يجيب بـ"نعم"، والمسكين كلما قال نعم فاجأه الجميع بنظرات ذهول مباغتة تجعله يتصبب عرقاً وينسى كل ما استوعبه.

واليوم دار سؤال على هذا الرصيف مفاده "ماذا يوجد في جيب المواطن؟" ما الشيء الثمين الذي جعل هذا الجيب قِبلة؟ فأغنى شخص هنا هو من يملك في جيبه مبلغاً من المال يكفيه حتى نهاية الشهر، وهذا هو الوحيد الذي يجلس متربعاً على الكرسي وينتظر في خيلاء "الشاي العدني" أن يأتي به متزلف ليطلب سلفة. من الأشياء الموجودة في جيب المواطن أيضاً، مجموعة من الفواتير والسندات الخاصة بالكهرباء والماء والاتصالات والعلاج والتعليم ومخالفات المرور وسندات الإيجار. وأيضاً في جيب المواطن بضع بطاقات أهمها بطاقة الفيزا منتهية الصلاحية وبطاقة الصراف التي لا يستخدمها إلا في بداية الشهر حين يسحب كامل الراتب ظناً منه أنه هكذا يسهم في خسارة البنوك! بالنسبة لكبار السن "المتقاعدين" فينتشر بينهم حمل الكثير من الخردة في جيوبهم كالعِلك والحلوى للأحفاد بالإضافة إلى المشط والمفاتيح وكتيب الأدعية وحبوب الضغط والسكر وبكت دخان ومسواك، وصورة شخصية لهم حين كانوا على رأس العمل.

في جيب المواطن أيضاً الكثير من الأحلام المؤجلة والوعود والأماني المتراكمة، كحلم امتلاك سكن أو شراء خروف بثمن معقول. وفي جيبه كذلك بضع وساوس شيطانية قد يئس الشيطان أن تتحقق لمحدودية الدخل ولله الحمد. في الأخير، لو أخرجنا كل ما في جيب المواطن ووضعناه على الطاولة أبداً لن نجد هذا الكنز الذي يبحث عنه الجميع.

ولا أعرف بالضبط متى بدأ الطواف حول جيب المواطن يتحول إلى ما يشبه العقيدة، فلم أعهد للبنوك إستراتيجية تحقق من خلالها أعلى عائد ربحي إلا إستراتيجية الطواف حول جيب المواطن، لكن تشاركها الآن في هذا الطواف مجموعة من المؤسسات والشركات الخدمية كالكهرباء والماء والاتصالات والبلديات والجوازات ووكلاء السيارات. لقد تعرض هذا الجيب لكل عوامل التعرية بسبب هذا الطواف.

ولكن، على هذا الرصيف لا أحد لا يمانع في المساهمة لأجل هذا الوطن، الكل يدرك أن مساهمته واجبٌ عليه، لكنه يتساءل عن أبسط الحقوق المتمثلة في طرح الأسئلة: لماذا القرار الذي يمس جيب المواطن يبدأ وينتهي مدروساً مفصلاً ويتم تطبيقه فعلياً في يوم وليلة، بينما القرارات التي تمس جيوب المترفين وهوامير العقار والماشية ومحتكري السيارات تأخذ سنوات للنظر فيها وسنوات أخرى للتقرير الذي ينتهي أحياناً بـ"ننصح بالتريث"! لماذا لا يتم ربط الحزام أولاً على بطون الكبار؟ وهل سيؤخذ من جيب المواطن بهدف بناء مصانع وشركات عملاقة تسهم في تنويع مصادر الدخل، وتؤمن حياة كريمة للأبناء؟ هل فعلاً سنصنع ما نلبس ونزرع ما نأكل؟ لماذا لا يتم إجبار وكالات السيارات على أن تبني بأرباحها الخيالية مصانع للتجميع وهذا أضعف الإيمان؟ لماذا لا يتم كف أذى البنوك وشركات الاتصالات التي ما كان لها أن تتربع على ميزانيات تفوق ميزانيات دول لولا جيب المواطن الذي لا تزال تستغفله!

وختاماً، إن الدعوة إلى الترشيد شر لا بد منه، فاقتصادنا ورغم الميزانيات الضخمة انتهى به الأمر إلى أن أصبح ريعيا هشا، وسيصل اليوم الذي تصبح فيه ميزانية الرواتب أعلى من مردودات النفط، فما الحل؟ الحل أن يلتفت الجميع إلى ضرورة أخذ مسألة محاربة الفساد على محمل الجد، أن يتم البدء في إيجاد مصادر متنوعة للدخل دون تسويف ولجان وعمليات مط. أن يباشر الجميع في ربط الحزام بلا تمنع وخلق أعذار، والأهم أن ما يحدث اليوم لا يمكن تجاوزه إلا بالمكاشفة والمصارحة والتوضيح أولاً بأول، فالحديث اليوم عن مستقبل وطن، وأمام الحديث عن مستقبل الوطن فعلى كل من خلع ضميره أن يعود ليرتديه. على كل من قدم مصلحته الشخصية أن يعي أن أبناءه لن يتنعموا ما لم يقدم مصلحة الوطن.