أتمنى ألا يخدعنك العنوان فتظن أن المقال يدور حول الحرب بالطائرات النفاثة، فليس هذا مغزى العنوان، بل النفث هنا هو نفث آخر لا يخرج من المحركات بل من الصدور!
الموضوع حول ما تصالح عليه أهل العقل بمسمى (تجارة الوهم)، وهي تجارة لا تكاد تفارق محلاتها الشوارع الفرعية في المدن تزاحم بضائع العطارين تارة وتستقر في مقرى أو مغتسل وشراب بارد لجيوب صاحب التجارة ملتهب على المرضى بالوهم!
متى بدأت هذه التجارة بالنمو والازدهار حتى وصلت إلى ما وصلت إليه؟! ولماذا نجد من يشتري الماء والأدوية التي عند الرقاة بدلا من الحصول على العلاج بالمجان الذي توفره الدولة؟!
لو عدنا إلى الحديث عما سمي بالصحوة -غير المباركة- قبل عقود والتي وجدت في العلم والمعرفة والفن والأدب، بل والأزياء وأغلب معالم الحضارة عدوا مبينا؛ لرأينا أنها أحدثت فراغا هائلا في مخلوق الصحوة الممسوخ إنسانيا، فهو يقف أمام الأزياء الحديثة متجنبا لها على أنها موضة محرمة، وأمام الأدوية غير متأكد مما يراد به من خلالها، وترافق هذا مع إقصاء ودعوة للتوكل بمعنى ترك الاستشفاء بالطب الحديث، وللأسف أثرت فينا تأثيرا نفسيا فادحا فكان لا بد من بدائل، فحل دهن العود وتجارته محل العطور الفاخرة، كما حل العسل والماء المقروء عليه محل الأشعة وتحليل الدم وقياس نسبة السكر والضغط، وأصبح الاعتماد على الأثر النفسي لكلمة الشفاء، فوجدنا منتجات مستوردة وكريمات مقروء عليها عدا الماء محكم الإغلاق، ولا تسأل فربما كانت القراءة أو النفث المبارك على المنتج من خارج العبوة محكمة الإغلاق!
هل يصدق عاقل أن دكاكين الرقاة لم تكن موجودة قبل أربعين سنة، وأنها اليوم في القرن الحادي والعشرين تجارة مزدهرة؟! وضع مأساوي جدا امتد وما يزال، وخلطت أدوية موصوفة يجب ألا تؤخذ إلا بوصفة طبية بخلطات عشبية، وأدى هذا إلى كوارث منها الفشل الكلوي الذي أصاب سيدة أعرفها نتيجة استبدالها دواء العطار بدواء السكر رحمها الله.
تغييب للعقل وقناعة وثقة بأن كل مرض وكل معاناة لها علاج من عند العطار الذي تؤكد تجاربنا أنه لا يصلح ما أفسد الدهر، بل قد يفسد أكثر!
خرج أشهر الرقاة قبل سنوات ونفى أن يكون هناك تلبس، فغضب قوم وتصدوا له مكذبين، وثبت كذب كثير من القراء واعتمادهم على الشعوذة أو لنقل على الأقل تلاعبهم بنفسية المريض واستنطاق الجن بالضرب الذي يجعل المضروب يقول سأخرج ليتخلص من عذابه، لكنه يعود في الموعد أو اليوم التالي لينفث عليه أو ليضرب لأنه مؤمن بأن خلاصه هنا، بينما قد يكون مجرد مرض نفسي أو اكتئاب حاد وسوداوية في المزاج!
لو كان الإيمان بتجارة الوهم مرحلة وانتهينا منها لهان الأمر، لكن المزعج أن هدايا هذه التجارة هي أهم ما يقدم للمريض في بعض الأسر -من باب الحب طبعا- ولو كان رجلا أو امرأة مسنة يعانيان أقصى درجات الشيخوخة.
نجد الرجال استفادوا اقتصاديا من ولع النساء بهذه التجارة، ولا نكاد نجد في النساء من فعلت ذلك؛ بل ويمثلن الفئة المستهدفة؛ من هذه الفئة صديقة معلمة بقيت تتردد يوميا على أحدهم، وتحدثنا عن الجني الذي يتحرك في بطن ابنتها الجامعية وينطق وهو يضربها وهي تستمر في الذهاب إليه عاما كاملا تدفع له يوميا ثلاثين ريالا أي بحسبة رياضية بسيطة قرابة العشرة آلاف ريال عدا ما كانت تدفعه للسيارة التي تقلهما؛ لكنها تحسرت وندمت ندما شديدا عندما أخذ الأب الذي لم يلحظ تحسن ابنته، أخذها إلى طبيب الأمراض الباطنية ليكتشف أن البنت تعاني من جرثومة المعدة!
تجارة النفث والوهم والإيمان بها كبديل للعلاج الموصوف، أو الأدوية النفسية اليوم كارثة تكشف عن ميل للانخداع بالمغيبات، والأطباء والمختصون بالأعشاب ينبهون إلى أضرار في الجرعات والخلطات وغياب حتى تواريخ صلاحيتها ولا نكاد نجد مجيبا!
أخيرا بداهة لا يعني الكلام السابق أبدا نفي الشفاء المذكور في القرآن أو نفي أن يستشفي الإنسان برقية نفسه أو غيره، لكن المقصود الانجراف وراء تجار النفث والضرب، ولا أنسى طفلة اقتربت من راق يبصق على أمها فبصقت عليه، لأنها أدركت بتلقائية عقلها الحاضر أن هذا الرجل يرتكب عملا يجب أن يبادل بمثله، ما رأيكم لو حكمنا على كل راق يستخدم الضرب بأن يضرب كما يضرب مريديه هو هل ستستمر هذا التجارة بظنكم؟!