لله الحكمة البالغة، وإليه يُرجع الأمر كله، خلق كل شيء فقدره تقديرا، جعل لعباده عبودية في السراء واليسر، وعبودية في الضراء والعسر، وأثنى سبحانه على من كمَّل مراتب العبودية، كما في قوله عن نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام: (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب)، فهذا الثناء من الله لأنه قام بعبوديته في الضراء، كما قام بها في السراء. بخلاف من لم يُوَفَق: فإنه إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته شدة نكص على عقبيه، وظهر خوره، وتسخطه.
قال الحسن البصري: "كانوا يتساوون في وقت النعم، فإذا نزل البلاء تباينوا". والإنسان ينظر إلى نعم الله ولا يزدريها، وأهمها نعمة الإسلام، ثم نعمة العافية والأمن، ونعم الله لا تحصى، فمن "أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حِيْزَت له الدنيا بحذافيرها"، كما جاء ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا نظرنا إلى حالنا في هذه البلاد المملكة العربية السعودية، وجدنا أن الدنيا حيزت لنا بحذافيرها، فنحن -بحمد الله- آمنون، والناس يُتَخطَفُون من حولنا، وعندنا ما هو أكثر من قوت اليوم والليلة. فنشكر الله الذي أطعمنا من جوع، وآمننا من خوف، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي.
إذا تقرر ما سبق: فإن ما أُعلن عنه من تعديلات في الرواتب أو إلغاء في بعض البدلات، نتقبله: بإيمان تام بما يقدره الله تعالى، وبتفهمٍ لما يراه ولي الأمر وفق الظروف والمصالح. لأن الله تعالى جعل له السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، فالمسلم صاحب العقيدة الصحيحة، لا تقتصر بيعته وسمعه وطاعته، على اليسر وما تنشط له النفوس فقط، وإنما أيضا في العسر والمَكره، أي: ما تكرهه النفوس.
والإنسان قد يكره شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، كما قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)، وقد يكون من جملة الخير في هذه القرارات: الصبر واحتساب الأجر، وترشيد نفقات الأسر، وعدم البذخ والإسراف، ورخص السلع، وتحصيل أعلى المصالح، بارتكاب أخف الضررين، وقد تعود هذه الرواتب والبدلات بأكثر منها، فالأمور كلها بيد الله، وسيجعل الله بعد عسر يسرا، وبالشكر تزداد النعم :(لئن شكرتم لأزيدنكم). فالعبد الصالح: يشكر الله تعالى، ويعلم أن لله عبودية في المَكرَه كما له عبودية في المَنشط.
فلا يكون كمن إذا اُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، فإن من كان هذا شأنه فقد دعا عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام بالتعاسة والانتكاس، فقال (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم تعس وانتكس، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط).
فهذه المسائل لها علاقة بالبيعة والإمامة، فقد قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله.
وورد في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعطِه منها سخط.
صحيح أن النفوس جُبلت على حب المال، كما قال تعالى: (وتحبون المال حبا جما)، وقال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). ولا يُلام الإنسان على حبه للمال، وفرحه بزيادة دخله، لأن هذا ينعكس إيجابا في الغالب على حسن معيشته وتعليمه ورعاية أسرته، والإنفاق منه في سبيل الخير، مما يُقربه إلى الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ المال الصالح، للرجل الصالح. وأثنى على عثمان رضي الله عنه، لكونه أنفق ماله في تجهيز جيش العسرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم).
وقد جعل الله المال قِياما للناس، وفقده أو جزء منه هو من جملة المصائب، قرنها الله مع فقد الأهل فقال عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهله وماله) والموتور: هو المُصاب بمصيبة، جعلته متوترا وقلقا.
ولكن الصبر والاحتساب، والنظر فيمن نحن أحسن منه، أنفع لنا، وأجدر أن لا نزدري نعمة ربنا علينا.
والمال إنما هو وسيلة، بينما طاعة الله ورسوله هي الغاية، فلا تُقدم الوسيلة على الغاية، ولا تكون بيعتنا وولاؤنا على المال، ومن أَجْلِه، إن أعطينا رضينا، وإن مُنعنا سخطنا، والعياذ بالله. فإن قال قائل: رُبما لو مسَّت هذه القرارات شيء مما تستلمه شهريا في عملك، لكان لك رأي آخر، غير الذي تقول آنفا؟
فالجواب: نسأل الله الثبات على الحق، فإن من لم يثبته الله فإنه هالك، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، ولا أزكي نفسي، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ولا أتمنى البلاء، ولا أسعى له، وإنما أسأل الله العافية. وقد شملني قرار إلغاء بدل الجامعة الناشئة وهو 40% من الراتب. ولكن بقي لنا ما فيه الخير إن شاء الله، ونسأل الله أن يُبارك فيه، ووطننا وقادتنا لو طلبوا منَّا كل ما نملك لقدمناه بطيب نفس، بل لو طلبوا أرواحنا -وهي أهم وأغلى من المال- للجهاد فداء للدين، ودفاعا عن وطننا، لقلنا سمعا وطاعة. فكيف ببدلات وأموال تذهب وتأتي، حسب الظروف والأحوال.
فما دام أننا على العقيدة الصحيحة، آمنين في بلادنا، مُعافين في أبداننا، عندنا قوت يومنا وليلتنا بل أكثر، فقد حِيزت لنا الدنيا بحذافيرها.
فما فائدة الأموال والثراء والممتلكات مع الخوف، لقد ذهبت بطرفة عين منشآت أقوام دفعوا عليها الملايين، عندما اختل أمنهم، كما في الشام ونحوها.
فنسأل الله أن يوزعنا شكر نعمته، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يجعل عاقبة أمرنا خيرا.