الأبوة وكذلك الأمومة مسؤولية كبيرة. ومن أهم الأمور التي أيقنتها حينما أصبحت أُمّا هي أن كثيرا منها ربما كنت أنتقدُ الآخرين عليها قد تكون صحيحة ومنطقية نظريا، لكن على أرض الواقع حينما يوضع الأب أو الأم فعليا في هذا الموقف، تصبح مجرد كلام في الهواء غير قابل للتطبيق.

واحدة من هذه الآراء، كانت فيما يختص بإلحاق الأبناء بالمدارس الأهلية، خاصة العالمية، ودفع رسومها الفلكية، وهو أمر كنت أعتبره ترفا، لا يجدر بغير المقتدر أن يخوض فيه، ثم يشتكي ارتفاع الرسوم الباهظة. فالمدارس الحكومية متوافرة بالمجان في كل مدينة وحي وقرية وهجرة.

لكنني اكتشفت لاحقا، حينما بدأت في البحث عن حضانة لابني، أن هناك أسبابا كثيرة، مبررة ومنطقية، قد تدفع الوالدين من أبناء الطبقة المتوسطة فما فوقها إلى الاتجاه للتعليم الأهلي.

هؤلاء الصغار هم استثمارنا الأمثل والأغلى على المستوى الأسري والوطني كذلك، ومن أهم الأسباب التي ربما تدفع الوالدين للتعليم المدفوع: القرب الجغرافي، وعدد الطلاب في الفصل الواحد، والاعتقاد بوجود اهتمام أكثر بالطالب، وإشراك الأهالي في العملية التعليمية بشكل أكبر.

أيضا، تعليم اللغات وعلى رأسها الإنجليزية منذ سن صغيرة، وهو من أهم أسباب طفرة المدارس العالمية، وتكاثرها كالفطر.

ومن الميزات الأخرى التي يسوّق بها التعليم الأهلي نفسه ويميزها عن التعليم الحكومي: تعليم التقنية، والاهتمام بالأنشطة اللاصفية، والأنشطة الرياضية خاصة للبنات، والتعامل الذي يُفترض أن يكون أقل صرامة وشدة، خاصة مع بعض الطلبة الذين يتميزون بالخجل، أو لديهم احتياجات إضافية، قد لا يتمكن معلم المدرسة الحكومية من تلبيتها، وهو الذي يدرّس بين 30 ـ 40 طالبا في الصف الواحد. وبالمجمل، الاعتقاد بأن المدرسة الخاصة توفر بيئة تعليمية ممتعة ومحفزة للابن أو الابنة، بحيث لا تصبح المدرسة لهم ذلك الكابوس الكريه.

هذا إذا اعتبرنا أن هناك بديلا حكوميا متوافرا كما في مراحل التعليم الأساسي، أما مراحل ما قبل المدرسة: الحضانة ورياض الأطفال والتمهيدي، والتي لا يكاد يتوافر لها بديل حكومي، فإن العائلة ليست أمامها من خيار إلا التعليم الأهلي، إما لأن الأم عاملة، أو لرغبتها في تطوير مهارات الطفل، وإشراكه مع أقرانه في اللعب، خاصة من سن الثالثة وما فوق.

وعلى الرغم من وجود قرارات حكومية تلزم المنشآت الحكومية، كما الخاصة، والتي يزيد عدد موظفاتها عن نسبة معينة بإنشاء حضانات وروضات في مقر العمل، فإن هذه القرارات ما زالت حبرا على ورق، إلا ما ندر.

وحين يتم توفيرها، كما هي الحال في بعض الجامعات، فإن هذه الحضانات ليست مجانية، وتوجد قوائم انتظار طويلة لها بالسنوات، نظرا لعدم تساوي حجم هذه الحضانات وعدد موظفاتها مع عدد الطالبات والإداريات والأكاديميات في الجامعة الواحدة.

لا شك أن الحصول على الخدمات الإضافية التي يقدمها التعليم الأهلي له ثمن، وهو أمر يدركه الأهالي الذين يختارون هذا الطريق، وهم يعلمون أيضا أنه ليس كل المدارس متكافئة في المباني والتجهيزات والكادر التعليمي والمنهج الدراسي والأنشطة اللاصفية وغيرها، وبالتالي طبيعي أن تتفاوت الأسعار، وإن كانوا يتوقعون وجود سقف أعلى لها. لكن ما لم يكن جُلّهم يتوقعه حين بدأ الإبحار في هذا الاتجاه، هو أنه سيقع فريسة لما يمكن تسميتهم "تجار التعليم"!

بعض هؤلاء التجار يقدمون خدمة جيدة، والبعض الآخر يقدم بضاعة مزجاة، لكنهما يتعاملان مع الطالب وذويه أولا من مبدأ التاجر الذي يهمه الربح الكبير والسريع، أكثر مما تهمه مصلحة الطالب، فهو لا يشعر أنه يقدم رسالة، حتى وإن كانت رسالة فيها شيء من الربح المستحق والمعقول، وإنما هو يقدم سلعة قبل كل شيء.

والمزعج في موضوع الرسوم المرتفعة، هو أنها لا تنعكس إيجابيا على الطالب أو المدرسة أو حتى المعلم. فما زال معلم المدرسة الأهلية يعاني من ضغوطات في العمل مقابل راتب زهيد، خاصة إن كان سعوديا أو سعودية، بل لا يوجد حماس للسعودة حتى في المواد التي يفترض أن يدرّسها سعوديون، مثل اللغة العربية والدين الإسلامي والتاريخ والوطنية.

هذه الرسوم الدراسية تجاوزت كل حد معقول، فهي من ناحية مرتفعة جدا، وسأذكر هنا مثلا مرحلة رياض الأطفال، إذ قمت بجولة على أكثر من 10 مدارس في مناطق مختلفة من مدينة جدة، فوجدت أن أقلها يبدأ من 9 آلاف ريال ويستمر الرقم في التصاعد حتى يتجاوز 30 ألفا!

وهذه الـ30 ألفا لا تشمل إلا رسوم الدراسة، وهنا تأتي الناحية الثانية، وهي أنه علاوة على أنها مرتفعة، فإنه يتم التحايل عليها واستنزاف الأهالي لدفع مزيد من الأموال عبر اختراع رسوم أخرى، ربما تصل هي في حد ذاتها إلى أكثر من 5 آلاف ريال، وذلك لتغطية ما يلي: فتح ملف، والتسجيل، والزي المدرسي، والكتب المدرسية، والحفل الختامي، وفي بعض الحالات رسوم غداء، أو –وهو ما استفزني شخصيا في بعض الروضات العالمية- رسوم تعليم القرآن والعربية! بينما يفترض أن تلزم الوزارة المدارس الأهلية جميعها –ما عدا التابعة لسفارات دولها– بتدريس هاتين الركيزتين الأساسيتين في التعليم السعودي.

وهذه الرسوم في ازدياد مضطرد غير منطقي ولا مبرر، وفي ذلك ابتزاز علني للأهالي، فأن تدخل ابنك مدرسة ابتدائية، وأنت قد قبلت رسومها المرتفعة، فهذا لا يعني أنه يحق لها فرض زيادة إجبارية عليك كل عام، وهي إجبارية لأنه ليس من السهل أن تنقل ابنك إلى مدرسة بنظام مختلف، أو حتى بالنظام نفسه، ولا أن تختطفه من بيئته التي تعود عليها، وزملائه وأصدقائه وعالمه الصغير. إحدى المدارس التي اتصلت بها العام الماضي كانت رسومها 18 ألفا، وعندما تواصلت معهم هذا العام عرفت أن التكلفة باتت 22 ألفا دون رسوم التسجيل والاختبار.

نعم، اختبار قبول لطفل في مرحلة الروضة، من إدارية غير متخصصة، تعطيه مجموعة من المكعبات ليرتبها خلال بضع دقائق يكلف 150 ريالا! ترى هل تعلم الوزارة عن هذه الأمور؟ وما موقفها منها؟

وما زالت هناك عدة نقاط عن التعليم الأهلي عامة والمدارس العالمية خاصة جديرة بالتناول لاحقا.