يعرف الدارسون في الجامعات الغربية تحويلة هاتف الأمن، لأنها معلنة في كل مكان تقريبا، في مقهى الجامعة، وفي ممراتها ومكتبتها، وعند البوابات الرئيسية، وأمام مصلى الجامعة. في جامعتي الأسترالية تحديدا، اعتدنا رؤية أفراد من فريق الأمن يمشون مع الطلبة والطالبات إلى مواقف سياراتهم عند خروجهم من المكتبات بعد العاشرة ليلا؛ لأن هذا جزء من مهامهم، فهم يوفرون هذه الخدمة حرصا على عدم وقوع الجرائم في مواقف السيارات، لأن ارتفاع مستوى الجريمة في الجامعة يضر بسمعتها، ويقلل عدد الملتحقين فيها، وإذا قلّ عدد الملتحقين فيها يقل الدعم المادي الذي تحصل عليه. لا أذكر أن أحد أفراد الأمن سألني عن بطاقتي أو طلب التأكد من شخصيتي، فبوابات الجامعة مزودة بقارئ للبطاقات لابد من لمسه للدخول إلى القاعات الدراسية ومنطقة مكاتب الأساتذة أو المبنى المخصص لروضة الأطفال، أما أغلب بقية مرافق الجامعة فهي متاحة للعموم ويستطيع أي كان الحضور لمكتبتها كقارئ أو لتناول فنجان قهوة في المقهى المطل على حديقة عامة تتنزه فيها حتى الكناغر، أو للعلاج في المركز الصحي إذا كان من سكان الحي. موظف الأمن في الجامعات الغربية يعامل الطلاب باحترافية، فهو مسؤول عن حمايتهم في معقل للعلم والحياة، ولا يتعامل أبدا مع الطلاب أو الطالبات بعقلية المعتقَل. يتفق ما يحدث في هذه الجامعات مع تصوري الشخصي لمؤسسات التعليم كجزء لا يتجزأ من بناء المجتمع.
ما الذي دعاني لكتابة هذه الديباجة؟
قبل عامين تقريبا بكينا سقوط آمنة باوزير بين زميلاتها في جامعة الملك سعود، وذلك على إثر منع المسعفين من الدخول. ببساطة مُنِع المسعفون الرجال من الوصول إليها وإسعافها بحجة أنها بدون غطاء. تأخر إسعافها ساعتين وفارقت الحياة لقصور في الدورة الدموية قبل أن تبلغ الثلاثين من عمرها، لأن النظام لا يسمح بدخول مسعف رجل بين البنات! بالأمس القريب تكررت نفس القصة في جامعة القصيم، غابت شمس (ضحى المانع)، لأن بعض مسؤولات الأمن رأين أنها تبالغ ولعلها تعرضت للإغماء بسبب السهر كما زعمن! سقطت الطالبة الجامعية ضحى بين زميلاتها المذعورات وعجزن عن إنقاذها، لأن الأمن منعهن من الاتصال بالإسعاف وإنقاذها، فالمسعف رجل لا يمكنه دخول مبنى الطالبات! استهانة عظيمة بالروح، وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن عمر: "ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك"، كما في الألباني.
حكّموا عقولكم، بل حكموا إنسانيتكم! ضحى المانع يحتضنها التراب لأن شخصا ما لا يحمل شهادة طبية، ولا تأهيلا مناسبا اعتقد أنها "تتدلع" ورفض وصول المسعفين إليها. مهمة الأمن التي أعرفها هي حماية الأشخاص، والعمل على سلامتهم، وحماية سمعة المنشأة، ومنع حدوث الشغب أو الجرائم، والتعامل مع الحالات الصحية الطارئة بجدية، ليس من مهام فريق الأمن تقييم الحالة الصحية، بل عليه التأكد من وصول المسعفين في أسرع وقت للمصابة لإنقاذ حياتها، وإذا كان في النظام ما يؤخر هذا فيما يتعلق بالأقسام النسائية فلنراجع النظام؛ فموظفة الأمن لن تخالف التوجيهات التي تصل إليها.
عذرا يا معالي مدير الجامعة، فبيان الجامعة لم يقنعني، ويعرف كل من يعمل في الجامعات مدى التشديد غير المبرر أحيانا في أي إجراء يخص الدخول والخروج في قسم الطالبات.
إن تعميمات وزارة التعليم تنص على تسهيل وصول الإسعاف، لكن المتحدث الإعلامي للهلال الأحمر السعودي عبدالله العتيبي اشتكى في حديث إلى صحيفة محلية عام 2015 من صعوبة مباشرة الحالات في المؤسسات التعليمية، وذكر تحديدا أن الدخول إليها لإسعاف الحالات أصعب، لاسيما في الكليات والجامعات. لذلك فعلى مديري الجامعات شخصيا مراجعة مسؤوليات الأمن والسلامة مع الإدارات المختصة، والتوجيه بحفظ الأرواح أولا، فبناتنا باختصار غاليات علينا. لا نريد أن تسقط ضحية أخرى وتسلم الروح لبارئها لتصدر إدارة الجامعة بيانا يبرئ ساحتها أو يرد الأمر للقضاء والقدر، نعم نؤمن بالقضاء والقدر، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، لكن الأخطاء البشرية يتحمل مسؤوليتها البشر، وتأخير وصول الإسعاف يقع في هذه الدائرة، يجب باختصار محاسبة من تسبب في هذه المأساة.
زهرة شابة أخرى تُسحَق، شمعة تنطفئ، وعزاء آخر يقام بسبب النظرة غير المنطقية للتعامل مع الحالات الإسعافية الخاصة بالمرأة. لو خسرنا روحا واحدة لهذا السبب لقلنا إن الواحد كثير جدا، فما بالنا لا نتحرك مع تكرار نفس المشكلة في عدة مواقع؟
من نافلة القول التذكير بأن الجامعات والمدارس والمؤسسات النسائية ليست معتقلات، كونوا على يقين بأن بناء الجدران لن تمنع الوقوع فيما تتوهمون من مخالفات، بل بناء جسور الحب والثقة بالنفس والضمير هو ما يمنع ذلك حتى في غياب الحرّاس. رحم الله آمنة باوزير، و خالص العزاء لذوي وصديقات الفقيدة ضحى المانع، رحمها الله وغفر لها.