تحول الفكر الإنساني جذريا في القرن السابع عشر، الذي طغت عليه الفلسفة العقلانية، كنتيجة طبيعية، لانتشار الفكر الديكارتي المؤثر للفيلسوف العقلاني الأكبر آنذاك "رينيه ديكارت"، وهو ما جعل المفاهيم العامة للفكر تبدو أكثر اختلافا، وأكثر قابلية وأهلية لصنع المختلف والجديد في الحياة البشرية، المختلف الذي طالما انتظرته الإنسانية بعد قرون طويلة من المراوحة في منطقة الرؤية الأحادية للتوجهات الفلسفية، والوقوف عند عتبات الماورائيات فقط، مهملة بذلك الواقع البشري، الذي على خلفيته قرر الفيلسوف "فيلهيم هيجل" في مطلع القرن الثامن عشر أن الفكر يجب توجيهه وإعمال تحركه في الواقع الإنساني، وأنها المنطقة الأكثر أهمية لصنع فكر فلسفي قادر على قطع مسافات طويلة وقفزات مهمة للإنسان والفكر بشكل عام، وهو ما حدث بالفعل من خلال الانطلاقة الكبيرة للمنجزات البشرية.

إذ قطع الإنسان خلال الـ300 عام الأخيرة ما لم يقطعه خلال 7 آلاف سنة، على كل المستويات تقريبا، وبتتبع سريع سنتأكد من ذلك قطعا.

فالعقلانية التي انتهجها "ديكارت" أدت إلى خلق توازن مهم في حياتنا، ونقلتنا من مرحلة الاستخفاف بالعقل والتفكير إلى مرحلة احترام الذات وطريقة نظرتها وتتبعها للأشياء، لبناء أنساق معقولة لفهم الموجودات قبل الذهاب إلى البحث في الماورائيات.

هذه النقطة تحديدا شكلت الفارق في حياة الأمم الغربية على مستوى الاكتشافات ونتائجها الصناعية والعلمية، وأبعدتهم عن الخلط بين العواطف والفيزياء التي تمكنت من الفكر العربي والإسلامي، وحجمته في قوالبها المختلفة شكلا، والمتشابهة في مضامينها وروحها.

لذلك بقيت هذه الثقافة الفكرية تراوح في مكانها، لأنها لم تستوعب أن الفيزياء وردة الفعل شيئان متلازمان على مستوى الفكر والفلسفة والمنطق كما هما على مستوى الطبيعة، والعلاقة بينهما غير محدودة في ظل وجود الحركة الكونية واستمرارها. وظهور العقل إلى المسرح الكوني الذي يذهب للبحث في تلك العلاقات المتوالية فيما بين الأحداث وردّات أفعالها كان نقطة تحول لتفسير الظواهر والتقلبات، وانتهينا إلى تعريف مهم مختصر للفكر، على أنه نتيجة ردود أفعال فسيولوجية غير جسدية تحدث في أجزاء من الثانية، وقد تحدث بطرق متعددة يتشكل على ضوء تراكمها ما يسمى بالأفكار، وتتشكل على ضوء تلك الأفكار وحدة نسقية يمكن تعريفها بالتوجه الفكري، الذي يأخذ منحى معينا تقرره وحدة الأفكار ونزعتها ومدى انسجامها داخل تلك الوحدة النسقية.

وحين ننظر إلى المنحنى البياني لحركة الفكر في التاريخ سنجد أن الأمم التي احتفت بالتنوع الفكري وأشركت العقل والمنطق في مسيرتها الثقافية كانت أكثر الأمم سيطرة وحضورا في الذاكرة التاريخية، إذ ترتفع المعدلات الإنتاجية لهذه الأمم على مستويات كثيرة، أهمها العلوم الإنسانية والعلمية والاقتصادية والعسكرية.

فالشرق الأدنى الآسيوي تأرجح في تاريخه الفكري والفلسفي، إلا أنه ظل وفيا لتقاليده وأعرافه ومكونا طريقته للانسجام التي بناها عبر تجاربه الثقافية، بينما اختلف الأمر في الغرب الذي مر بمراحل تاريخية متأرجحة شكلت ملامح حضارة عصوره الأولى ثم الوسطى ثم الحديثة، مُشكلة خطوطاً بيانية تصاعدية ثم منخفضة، ثم عودة قوية إلى مؤشرات الارتفاع.

وقد حدث ذلك في حضور التنوع الفكري في العصور الأولى (اليونانية)، وغياباته في العصور الوسطى، ثم انتعاشه في العصور الحديثة، وتحديدا منذ بداية ظهور المنهج الفلسفي العقلاني، الذي أسس له بعض الفلاسفة الغربيين في نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، مثل "جون لوك، وديكارت، وسبينوزا".

وفي جانب الثقافة العربية، يسرد لنا زمن "مملكة سبأ" في جنوب شبه الجزيرة العربية (اليمن)، ومرحلته التاريخية، التي ازدهرت فيها عوالم ثقافية ارتبطت بثقافات الهند والقرن الإفريقي وبلاد فارس، ثم اندثرت، لتعود بعد ظهور الإسلام بـ150 عاما تقريبا حركة التنوير والتنوع الفكري، التي أثرت في الثقافة العربية ووضعتها في مكان متقدم على خارطة العالم، من خلال اختلاطها بالثقافات الأممية الأخرى التي انفتحت عليها، وترتفع أعلى مؤشراتها في العصر الأندلسي، لتمكن العالم من نقل الفكر على اختلافه إلى منصات أوسع للعالم، لكن التضييق على الفكر ظل ملازما لكل فترات الإنعاش الفكري العربي، لنظل في منزلة الناقلين أكثر من منزلة المخترعين وأصحاب المنجز.

اليوم يتفوق الغرب والشرق الأقصى، وتتأخر الثقافة والفكر العربي كالعادة، وتتراجع كل المؤشرات الدالة على ظهور وعي فكري عربي إسلامي مختلف، في ظل سيطرة الفكر الذي يهمل حقيقة الواقع الإنساني، كمحور فلسفي لصناعة الفارق العلمي والثقافي والأخلاقي.

لأنه من الواضح أن ظهور الحركات الغاشمة المتطرفة كان نتيجة لغياب التنوع الفكري الفلسفي على امتداد التاريخ البشري.