كنت فيما مضى، أنظر إلى الفكرة من حيث هي فكرة، ثم أقبلها أو أنقدها، وإذا نقدتُها؛ نقدتها على طريقة: فإن قيل قلنا، وإن قالوا فالجواب، وهكذا.

كأن الأفكار تطير في الهواء، في معزل عن السياقات التاريخية والاجتماعية، والأوضاع التي تؤطرها.

وهذا الأسلوب –أعني أسلوب إن قالوا فقلنا، وإن قيل أجبنا- اتبعته في كتابي الذي صدر عام 2010 بعنوان نقد الخطاب السلفي – ابن تيمية نموذجا.

لكني مؤخرا تفطنت إلى طريقة أخرى في النظر إلى الأفكار، من أجل فهمها وتفسيرها؛ قبل الأخذ بها وتمثلها، هي النظر إلى الأجواء التي صدرت تلك الأفكار فيها، وسأتكلم في هذه المقالة عن لحظة أبي حامد الغزالي "يرحمه الله تعالى".

ربما – لشدة الإلف وجريان السنين– نغفل عن أهمية فكرة، نراها اليوم عادية، بل مبتذلة، لكنها في وقتها لم تكن كذلك، بل ربما كانت لحظة انقلاب حقيقي، وذات تأثير عميق، لا نشعر نحن به؛ لطول العهد، وزوال الأوضاع والسياقات أصلا.

دونك –مثلا– الدعوة إلى "السفور"، والسفور هنا ليس المقصود به خلع الجلباب بالكلية، بل كان المقصود به حينها –أعني في ثورة هدى شعراوي– إزالة غطاء الوجه فقط لا غير!، وكانت ثورة لها صدى عميق، واهتزت بسببها الأوساط الثقافية، وكتبت من أجلها مقالات كثيرة، وحدثت جلبة مدوية، وكتب عنها حافظ إبراهيم قصيدة خالدة. ولكننا اليوم لا نراها شيئا! فما الذي يعنيه أن تكشف امرأة وجهها؟ إنه أمر مألوف في معظم بلدان العالم العربي اليوم.

وعلى هذا النحو، ننظر إلى أفكار العلماء الذين خلّد التاريخ ذكرهم؛ فمن العلماء من اشتهر بالفقه، ولكنه لم يكن يملك مشروعا فكريا، ومنهم من كان له مشروع فكري "رسالي"، مثل أبي حامد الغزالي يرحمه الله "لا سيما في عهده الأول قبل أن يعاني مشكلته الروحية الخاصة التي خلص منها إلى تراجع فكري ما، يخصه هو، وأزمته الروحية"، ومثل أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن

عبدالسلام بن تيمية الحرّانيّ الدمشقي "يرحم الله روحه".

أما ابن تيمية، فلا أظن عالما من علماء المسلمين يبدو أنه صاحب مشروع حقيقي وفاعل؛ استمر يدعو إليه في صمود وجلد عجيبين، كهذا العالِم الجليل الأعجوبة.

توفي الإمام أحمد "إمام أهل الحديث في زمانه" عام 241 هـ، وبعد وفاته بمدة يسيرة، لا تتجاوز الخمسين سنة، قامت دولة جديدة في جنوب العراق، في الأحساء والبحرين وما جاورهما، أسّسها رجل يقال له: أبوسعيد الجنّابي، هي دولة القرامطة الباطنية!. أقام في القطيف أوّل ما أقام، تحت ستار العمل بالتجارة، وأخذ "يدعو" من كان هناك من الأعاريب إلى هذه الدعوة، في جَلَد وصبر وكتمان، حتى إذا ما استوثق من كثرة جماعته، وتمكنه فيهم، صدع بها عام 286 هـ، وأسس دولته في الأحساء.

ومن هذه الدولة بدأ هؤلاء الأعاريب، وكان أتباعه قبائل عربية صميما، بالغزو، والسطو، وتهديد الحجاج، حتى إذا مات أبوسعيد؛ تولى بعده ابنه أبو طاهر الجنّابي، الذي غزا مكة المكرمة، وقتل الحجيج، في المطاف والمسعى، وسرق الحجر الأسود من الكعبة عام 317 هـ، أي بعد وفاة أحمد بن حنبل بـ76 سنة فقط لا غير!

بقي الحجر الأسود في حوزة القرامطة 20 سنة كاملة، حتى أعيد بالتي واللتيّا وبجهد "جماعتهم" من الفاطميين "الباطنيين" في مصر عام 339 هـ، أي: قبل ولادة أبي حامد الغزالي بتسعين سنة.

ولك أن تتساءل: أين أهل السنة وقتها؟ دويلات متصارعة، في جزر معزولة، كل همّه بقاء دولته، وحفظ سلطانه، والفكر الباطني يعمل على قدم وساق، ويبث الدعاة في كل مكان، والخريطة تتغير وتتبدل.

وفي إبّان قيام دولة القرامطة في الأحساء، قامت لهم دولة في اليمن على يد علي بن الفضل، في المرحلة ذاتها، وفي السنين ذاتها، فعمد إلى يافع، وملك صنعاء، وفي أثناء ذلك أيضا –وبعد أن قامت دولة الفاطميين في المغرب– قامت دولة الفاطميين في مصر، ثم استولت على الحجاز، ولم تزل دولة الفاطميين، تتوسع، وينتشر أصحابها في العالم سنة بعد سنة، حتى جاء الحسن بن الصبّاح المولود سنة 430 هـ، أي قبل ولادة الغزالي بعشرين سنة فقط، فاعتنق الإسماعيلية، واستولى على قلعة ألموت "في إيران حاليًّا"، وقلاع غيرها، هو وأتباعه، تمددت في الشام كذلك، وكان أبرز قلاع الباطنية في الشام قلعة مصياف التي استولى عليها أخيرا، القائد المملوكي بيبرس.

في ضوء هذه الأوضاع "الباطنية" وتمكنها وُلِد أبوحامد الغزالي، وفي هذا السياق نشأ حجة الإسلام "رحمه الله".