يتفق كثير من فقهاء المسلمين على أن الإسلام قد أعطى للمرأة البالغة العاقلة كامل الحرية في قبول أو رفض من تقدم لخطبتها، ولم يجعل لأبيها أو وليها أن يجبرها على من لا ترضاه فيرد الزواج ويبطل عقد النكاح إذا جرى بدون رضاها، ومع ذلك يرى من الفقهاء المعاصرين لزوم ووجوب موافقة الأب أو ولي الأمر على زواج البنت البكر، فليس لها أن تتزوج بمن تشاء إلا بموافقة وليها، ورغم أن فتاوى الفقهاء في هذه المسألة جاءت من باب الاحتياط الوجوبي إلا أن السائد عند البعض أن وجوب موافقة الولي هو حكم من أحكام الشريعة الإسلامية وبدونه يبطل عقد النكاح!.
وكما هو معلوم في الفقه الإسلامي تحريم عضل المرأة ومنعها من الزواج بمن ترضاه لقوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/232، وعليه لا يجوز لولي المرأة أن يمنعها من الزواج بالكفء الذي رضيت به، ولهذا ذهب الفقهاء إلى أنه "إذا تحقق العضل من الولي وثبت ذلك عند الحاكم، أمره الحاكم بتزويجها إن لم يكن العضل بسبب مقبول، فإن امتنع انتقلت الولاية إلى غيره"، فتنتقل الولاية إلى القاضي فيقوم بتزويجها.
ومما سبق، يتضح أن الأصل عند فقهاء المسلمين هو أن المرأة كاملة وتامة الأهلية، ويرى الإمام أبوحنيفة، رحمه الله، صحة تزويج المرأة الرشيدة نفسها، وعلى هذا الأساس تكون الولاية على خلاف الأصل، لأن كل إنسان بالغ عاقل راشد أن يستقل في التصرف بجميع شؤونه، ومنها الزواج واختيار شريك الحياة، كما أن الزواج في الفقه الإسلامي تنطبق عليه ضوابط العقود بمسمى "عقد النكاح"، ومن شروط هذا العقد اتفاق ورضا الطرفين، وبالتالي لو رغبت المرأة في زواج الكفؤ يصح عقدها عليه حتى لو كره الولي.
لن أخوض في تفاصيل اختلاف الفقهاء حول صحة أو ضعف الروايات التي تشترط الولي في الزواج أو تنفيه، لكن من المهم الإشارة إلى رواية ابن عباس رضي الله عنه : "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت: أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أخرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "أجيزي ما صنع أبوك، فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي، فقال: اذهبي فانكحي من شئت"، ويدل هذا الحديث على أن موافقة الولي جاءت بالإجازة للاستحباب لا للوجوب.
وعلى هذا الأساس، فإنه من الأفضل أن تستشير الفتاة الولي من باب الاستحباب والأدب ومن باب التقاليد والأعراف، وليس شرطا أساسيا في عقد النكاح، والدليل على ذلك كما رأينا آنفا أنه في حال رفض الفتاة للزواج يكون العقد باطلا، وتنتقل الولاية إلى القاضي، مما يعني أن موافقة المرأة ورغبتها هما الأساس لصحة الزواج، ويكون من مهام الولي تسهيل الزواج وتأمينه وتوفير عوامل الاستقرار له ورعاية مصالح الفتاة.
والخطأ الكبير الذي وقع فيه البعض للأسف الشديد بسبب النظرة الدونية إلى المرأة على أنها ناقصة الأهلية، فأعطوا حق الولاية المطلقة على المرأة، لأنها في نظرهم مندفعة في تصرفاتها، ويغرها المظهر دون ترو وتفكر في العواقب، فهي قليلة الخبرة والتجربة في المجتمع ويسهل خداعها، ولهذا تم اشتراط الولي لأن الرجل أبعد نظرا وأوسع خبرة وأسلم تقديرا، والنكاح بلا ولي يؤدي إلى "ترك الحبل على الغارب للمرأة لتزوج نفسها بنفسها، وسيفتح الباب على مصراعيه لنشأة العلاقات الآثمة بين الجنسين، وسيبادر كل عاشقين إلى أقرب مأذون شرعي لإضفاء الصفة الشرعية على علاقتهما بلا علم الأب أو الولي"!.
ونتيجة للآراء السابقة، يعتقد بعض أولياء الأمور أن الفتاة داخلة في طوعهم وتحت إرادتهم ولهم الحق المطلق في تزويجها إلى من يشاؤون أو رفض من لا يرغبون، فتم استغلال المرأة لأسباب مادية، كالطمع في راتبها أو المزايدة على مهرها، أو تزويجها من أجل المصالح الشخصية للولي، أو الخضوع التام للتقاليد والأعراف الجاهلية مثل تكافؤ النسب أو زواج الأقارب.
تشير إحصاءات وزارة العدل إلى ارتفاع نسبة دعاوى العضل في مختلف مناطق المملكة، وذلك نتيجة لارتفاع وعي المرأة بحقوقها واللجوء إلى المحاكم، وبالرغم من صدور عدة قرارات عدلية تحمي المرأة في مجال الأحوال الشخصية؛ من بينها: نزع الولاية عن ولي المرأة التي تتعرض للظلم والعضل، بالإضافة إلى اعتبار العضل من أوجه الاتجار بالبشر، إلا أن المرأة ما زالت واقعة بين نارين، بين نار العنف، ونار الإقصاء والطرد من قبل الولي.
فبمجرد لجوء المرأة إلى المحكمة وتقديم دعوى العضل، فهذا يعني نشأة الكراهية لدى الولي فقد خرجت المرأة عن طوعه وتمردت على إرادته، فأصابت رجولته في مقتل، وتسببت في فضيحته أمام الناس، لذا ليس أمام المرأة إلا الهروب من الأسرة أو اللجوء إلى دور رعاية الفتيات.
إن المجتمع اليوم في تحول وتغير مستمرين، فتغيرت القيم والأعراف والأفكار التي تدعونا إلى الانسجام معها، شئنا أم أبينا، وبدأت الأسر تعيش التخبط بين قيم الأمس ومقاييس الحياة الحديثة، وبدأت المرأة تطالب بحقوقها وشخصيتها المستقلة، فهل لدى فقهاء اليوم حلول تلامس أزمات الأسرة والمرأة والمجتمع وفق مستجدات الواقع المعاصر؟... أشك في ذلك!.