صليت مغرب الخميس الماضي متوسطاً صفين من أبناء "سوداننا" الشقيق في القفار النائية على الطريق ما بين جدة والمدينة المنورة. رعاة أغنام ومواش يجتمعون تحت غطاء من التنك في المسجد الترابي المفتوح للريح في كل اتجاه، وكأنهم يرمون بالفاتحة وسورة الحمد أكاليل إلى فوق التلال السوداء المتناثرة. شعرت وكأنني أسمع "والعاديات ضبحا"، ومن فم الإمام للمرة الأولى في هذه الحياة. وفي ثلاث مرات من الركوع كنت أسرق النظر إلى الأقدام الجافة من حولي وقد تحولت إلى أشياء لا تشبه سوى قطع الأحجار التي تذرعها في اليوم الواحد ألف ألف مرة. حياة بلا أظافر أو حتى جلد بباطن القدم. فجأة..... وجدت نفسي، وللمرة الأولى في حياتي ممسكاً بميكرفون المحراب بكل ما له من هيبة تخور معها كل كوامن شخصيتي المتماسكة التي تحدثت من قبل في عشرات "الميكرفونات" دون أن تهتز شعرة، ماذا سأقول؟ لا شيء سوى التذكير بالصبر على شظف العيش والفراق وغربة الفيافي والقفار الملتهبة من أجل لقمة من الحلال، ففي مثل هذه الأماكن الموحشة تضيق دائرة الحرام وإغراء متع الدنيا إلى حدود صفرية ضيقة. ماذا سأقول؟ لا شيء سوى التذكير بأن محمد المصطفى، سيد الخلق، وصاحبه، ربما كانا هنا..... ناما هنا.... في الطريق التاريخي ليلة الهجرة التي غيرت للأبد خارطة الإنسانية. نحن على طريق الهجرة وكفى.

شعرت معهم، وأستغفر الله، أننا نجتمع حول "لا إله إلا الله" ولكننا اختلفنا مللاً ونحلاً من حول "وأن محمداً عبده ورسوله" فكيف؟ في الجلسة القصيرة ما بين الصلاتين، وفي الظلام الدامس، طرحت ما كتبت من قبل عن جناية المثقف والواعظ والمفكر والداعية في السؤال البليد الغبي عن المذهب وعن طرائق التصوف. فتحت معهم مصطلحات "الميرغنية والحوامدية والمهدية" فكأنني ألقي على مسامعهم مفردات من اليونانية المنقرضة. تصعقني إجابة الطارف منهم وهو يقول: نحن لا نقرأ ولا نكتب ولم يمزق هذا الدين سوى "حذلقة" التأليف والكتابة، والإسلام لا يطالبني سوى بركنين من أصل الخمسة: حجيت وانتهيت ولا زكاة علي أبداً وغير مطلوب مني سوى الصلاة والصوم ولولا الركن الأول الفطري لما فعلت ما تلاه. الصلاة والصوم لا يحتاجان أبداً إلى بركات الميرغني ولا لأسفار المهدية أو الشاذلية. نحن نصلي هنا صلوات الليل جماعة ثم تأخذنا صلوات النهار فرادى في القفار والرمال. وعندما يسافر إمامنا إلى المدينة في مرات نادرة نبقى على سور "المعوذات" القصار ولربما، يقولها مازحاً، قرأ علينا الليلة سورة "العاديات" التي لا نسمعها إلا حين يصلي معنا ضيف أو زائر. يقول أكبرهم سناً: لم يسبق لأحد من قبلك أن خطب فينا أو ألقى درساً قصيراً بعد الصلاة، وأنا بهذا المكان منذ عشرين سنة. قلت له ضاحكاً: وأنا لم أفعل هذا في مسجد على الإطلاق منذ خمسين سنة. جلجل المكان بالضحك حين قال أحدهم بلهجة سودانية لذيذة "يا أخي أنت جاي هسا بتجرب علينا". جملة ساخرة ولكننا يجب أن نأخذها على أقصى ما تحتمله من درجات الجد والحقيقة: كل الملل والنحل والطرائق التي اختطفت هذا الدين ومزقته وحادت به عن منهجه النقي البسيط، إنما ابتدأت عبر "متحذلق" وجد جماعة منقطعة في قفرة أو هجرة معزولة ثم ابتدأ بينهم يبشر وينشر طريقته. ولو أنني وجدت مثل هؤلاء قبل مئتي سنة، وقبل ثورة التواصل، لربما تحولت خطبتي القصيرة في مسجدهم إلى شيء يشبه البيان الأول للطريقة "الموسوية". وحتما سأموت بينهم في ذلك الزمن البعيد الماضي ولكنت قد تحولت إلى مزار لضريح شيخ طريقة.