في تحليل ظاهرة الخطاب الكثيف في أدبيات اليوم الوطني، يظهر، بلا شك، أننا ما زلنا في المربع الأول من صراع الهوية. باختصار، ما أقصده هو تجاذبات الولاء في الأولويات ما بين قطبي الوطن والأمة. خذ على سبيل المثال تهنئة هيئة كبار علمائنا الأفاضل، والتي صيغت بمهنية واحترافية ودقة تتحمل باقتدار ومسؤولية قيمة الكلمة وهي تقول بالحرف: (الولاء للمملكة بعد الولاء للدين، والانتماء للوطن فوق كل انتماء بعد الإسلام، وأمن واستقرار البلاد فوق كل تطلع). وأرجو ألا يقول أحدكم بمنع وتجريم النقاش حول حتى مجرد تغريدة من الموقع الرسمي لهيئة كبار العلماء الأفاضل، فأنا وبالتجربة مع عدد كبير منهم أشهد أنهم أوسع صدرا وأكثر أبوة حتى في نقاش ما هو أكبر من ذلك، وأكبر من محتوى التغريدة التباسا وخطورة. حضرت شخصيا مع عدد من هيئة كبار علمائنا الأفاضل بعض لقاءات الحوار الوطني التي كانت تناقش بشكل علني صريح دوائر الترتيب والأولوية في الولاء والانتماء ما بين الوطن والأمة. قصتي تكمن في حروف الجر التي تربط مصطلحي (الوطن - الأمة) مع الولاء والانتماء، ولم تكن أبدا مع صلب الكلمات والمصطلحات قبل أو بعد حروف الجر. مشكلتنا الأزلية من وجهة نظري أننا نخلط بالتباس وسوء فهم ما بين مصطلحي (الإسلام والأمة)، دون أن نقرأ الدلالات (السيميولوجية) للفوارق ما بين المصطلحين.
الإسلام غطاء فوقي شامل لا يحتمل التجزئة والتقسيم، بينما (الأمة) تحتمل التصنيف والترتيب والأولويات، لأنها (عدد) قابل للقسمة على العرقية والإثنية. الإسلام، ومن سوء فهمنا له والتباس قيمته علينا، لم يأت أبدا كي يمسح أعراق منسوبيه، ولا لطمس معالم حياتهم الإثنية، ولا لإلغاء ثقافاتهم ولغاتهم وإرثهم التاريخي الطويل. وللتبسيط، فإن الإسلام لم ولن يقول، مثلا، لمسلم ياباني إن اليابان يجب أن تكون في المرتبة الثانية بعد بقية الطيف خارج إثنه وعرقه الأصل. وبالمقاربة فإن هويتي السعودية لن تجعل من وطني ثانيا بعد الأفغاني والألباني، فهذا جهل فاضح بحقائق التاريخ، وصيرورة الأنثروبولوجي، وفطرة المخلوق مع التراب الذي خلق منه ونشأ عليه. نحن مثل هذه التربة على منهج الخطاب الأممي العابر للأعراق والجغرافيا والتاريخ لا نخلق حالة ارتباك للهوية فحسب؛ بل نصنع جيوبا من التنافر والفتن في كل جيوب الخريطة الكونية حيث تتواجد الأقليات المسلمة. هذا بالضبط ما يحدث في الأمثلة من ناد في جنوب تايلاند والفلبين وآسيا الوسطى وبعض جيوب إفريقيا وحتى داخل المهاجر الأوروبية والغربية. هذا الخطاب الأممي أساء إلى عشرات الأقليات التي تعيش اليوم تحت الحصار، لأن مجتمعاتها الأصل أو المستقبلة لها تشك وتشكك في أنها حربة من وفي الظهر الآمن. ولضيق المساحة سأكتب السبب: لأن لدينا لبسا في تعريف ثوب الهوية وإلغاء لمكونات قوامها الأصل، وتفصيل ثوب مختلف لها لا علاقة له بأخطائنا عليه.