لعله ليس من مدينة معتبرة في العالم إلا ومنها حاج، فضلا عن دول العالم المئتين. وهذا العام كان الحجاج من 180 جنسية، والعدد المليوني ليس عبرة، فعلى حد علمي يجتمع في صعيد واحد من جماعة الدعوة والتبليغ في الهند وبنجلاديش سبعة ملايين من الأنام، ويتم نقل التكبيرات بصوت خلف صوت، كما أن البابا في زيارته لأميركا اللاتينية يجتمع للترحيب به ملايين من الناس، وهي مكان توسع إسبانيا، حيث نقلت مع الفتوحات الصليب والمصلبة، فهم بالتثليث يدينون، شاهد على أثر السياسة في اعتناق الديانة.
كما أن نهر الجانج في الهند يلتقي في جدوله الحجاج الهندوس بالملايين فيغتسلون في النهر المقدس.
وكان في أيام سابقات يحج إلى قبر لينين ملايين من المغشوشين ببريق الشيوعية، حتى كسر صنمه وسوي رمسه فأصبح للتاريخ.
وهناك أماكن شتى لاجتماع كم هائل من الناس في الأولمبياد، وجماعة شهود يهوه، ومتحف الشمع لمدام توسو فيصطفون في طوابير لا نهاية لها، ورأيت عند قبر فرانكو ما يذكر بسورة نوح "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا".
ولكن الحج في مكة يختلف في الزمن؛ فهو يدور مع تقويم مختلف كل عام، وهو يضم دوما أناسا جددا من كل المعمورة، كما جاء في دعاء إبراهيم أن يأتي الناس إلى أرض غير ذي زرع عند بيتك المحرم.
المكان الوحيد الذي يأتي إليه كل الناس من كل فج عميق هو مكة والبيت الحرام" الذي جعلناه للناس، سواء العاكف فيه والباد، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم".
يتدفق الناس إليه من كل الألوان والثقافات والأعراق والأجناس واللغات ومن الجنسين؛ فيمشون بلباس الكفن، في ديموقراطية صارمة، فلا يميز الإنسان بين أمير وحقير وغني وفقير، الكل علاهم الغبار وشعثت شعورهم وطالت أظفارهم، والكل يمشي وكأنه يوم الحشر يدعو الرحمن بالتوبة والغفران.. في هذه الأيام القليلة تتحرك مظاهرة مليونية تنادي الرب: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك.. في مظاهرة سلامية، يتم فيها شحن الروح السلامية في كل مفاصل العالم أن البشر أخوة، وأن السلام هو لغة الخطاب.. سلام قولا من رب رحيم.. وأن الكعبة البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وأن هذه الكعبة تتضخم كل يوم حتى تسع الكرة الأرضية كلها بين جدرانها بالسلام والأخوة البشرية، بدون فوارق طبقية وإحن طائفية ونزاعات قبلية وعفن من العنصرية البغيضة.
ثم يأتي بعدها التضحية بالقربان الحيواني، وهي تذكر بالقربان إسماعيل الذبيح الذي قدمه إبراهيم وتله للجبين" فناديناه أن قد صدقت الرؤيا وفديناه بذبح عظيم إن هذا لهو البلاء المبين".
وفيها ترميز عميق أنه يجب التوقف عن التضحية بالإنسان، وهنا قد يسأل القارئ: وهل كان البشر يقدمون ضحايا فيما سبق؟ والجواب كان وما زال، فأما القديمة فكانت بسيطة، كما نعرف في حضارة المايا في أميركا الوسطى حيث تقوم المكسيك حاليا، فكان الشاب من الأعداء يمسك من أطرافه الأربعة ويسند ظهره على حجر الذبح ويأتي الكاهن فيشق صدره بنصل خنجر حاد ويستخرج القلب وهو يخفق فيحييه الجمهور المنتشي بالدم. وكان الآلاف منهم يقتلون بهذه الطريقة يوم العيد عندهم.
وفي قصة ولدي آدم الأولى إشارة إلى فكرة القربان؛ فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر،" قال لأقتلنك. قال إنما يتقبل الله من المتقين".
أما القرابين الحديثة فهي الشباب الذين ينحرون في الحروب باسم آلهة جديدة، من العجول البعثية العبثية، والقومية البغيضة، والناصرية الملفقة، والطائفية النتنة، والمذهبية المدمرة، والفاشية الإجرامية، والنازية العنصرية التي ينادي بها حاليا سارازين وأشياعه من جنود أبليس أجمعين، والشيوعية الفانية المقبورة، والرأسمالية الغشاشة المنافقة في حروب الارتزاق كما في العراق وأفغانستان بختم عالمي مزور.. التي تحتضر هذه الأيام بعد كارثة الرهن العقاري العالمي.
واختصر الفيلسوف محمد إقبال هذه الوثنية المتجددة ببيت من الشعر فقال: تبدل في كل حال مناة .... شاب بنو الدهر وهي فتاة!