شهدت سورية هدنات متتالية تكاد تكون الأكثر إدهاشا في تاريخ الحروب في العالم. ففي كل هدنة تم الاتفاق عليها رسميا لم يتغير شيء تقريبا، رغم تأكيد جميع الأطراف الالتزام بها والعمل لإنجاحها ورغم البيانات والاجتماعات والتصريحات والمؤتمرات الصحفية. وكما هو الحال منذ 5 سنوات خلت فإن الوضع الإنساني مستمر في التدهور، والسوريون مستمرون في النزوح والموت واليأس، والمناطق المحاصرة مستمرة في مكابدة الحصار بلا مواد غذائية أو طبية. أما النظام السوري فاستمر في قصف المدنيين بمساندة روسية (وقريبا أميركية) تحت ذريعة محاربة إرهاب داعش وجبهة النصرة، الذريعة الملائمة لفعل ما يريده النظام وحلفاؤه، وفق المعايير المطاطة لتحديد هوية الجماعات الإرهابية المتواجدة على الأرض السورية، ووفقا للمسارات المتفق عليها من قبل الجميع باستثناء السوريين أنفسهم.
ومع اتفاق الهدنة الجديد الأميركي-الروسي الذي تم التوصل إليه قبيل عيد الأضحى؛ يعاد السيناريو القديم ذاته (ليس بعيدا) باستثناء تفصيل واحد جديد هو إعلان وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف عن أن صمود هذه الهدنة مدة أسبوع سيسفر عن تعاون عسكري بين البلدين وإنشاء «مركز مشترك» روسي- أميركي لتنسيق الضربات "سيعمل فيه عسكريون وممثلون عن أجهزة الاستخبارات الروسية والأميركية لتمييز الإرهابيين من المعارضة المعتدلة"، ما يعني أننا سنشهد طلعات جوية سورية روسية أميركية مشتركة لدك أوكار الإرهابيين في المدن والمناطق السورية ذاتها التي قصفت فيها المقاتلات السورية والروسية مدنيين سوريين بينهم أطفال ونساء، تحت ذريعة انتمائهم لجماعات إرهابية متشددة، وما يعني كذلك أن أجهزة الاستخبارات الأميركية ستعتمد غالبا -أو أحيانا إذا ما تفاءلنا كثيرا- على المعلومات الاستخباراتية الروسية، وهي المعلومات نفسها التي يمدها بها نظام الأسد وفقا لمصالحه المتشبثة بإنهاء ثورة السوريين، وأن الطائرات الأميركية ستتحول بدورها إلى منفذ لعمليات نظام دمشق.
قد يجيبني أحدكم قائلا إن للمخابرات الأميركية أدواتها ووسائلها الخاصة التي تتيح لها في الحد الأدنى تقصي مواقع تواجد الإرهابيين بدقة، وبالتالي التمييز بينهم وبين فصائل المعارضة المعتدلة وبين المدنيين (إن لم تكن تملكها أصلا)، وهي ليست ساذجة إلى الحد الذي يجعلها تبلع الطعم الروسي لاستهداف المعارضة المعتدلة قبل داعش والنصرة، كما أنه لا مصلحة لها بذلك: في حقيقة الأمر هذه هي المشكلة.
الوثائق والمعلومات الخطيرة التي نشرتها بعض الصحف الغربية مؤخرا -ومنها صحيفة لوموند الفرنسية- عن امتلاك المخابرات الأميركية أدق التفاصيل عن إحداثيات وتحركات ومخططات تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سورية، وعلمها بمواقع أبرز قيادييه وأعوانهم على الأرض، وبلوغ أجهزة مراقبتها من التقنية والحداثة ما يتيح لها رصد تواجد الأطفال في إحدى حافلات التنظيم المتجهة إلى تدمر قبل سيطرة التنظيم عليها، ثم امتناعها عن استهداف بقية القافلة رغم اطلاعها على العملية قبل أيام، والفشل الكلي تقريبا لعمليات التحالف الدولي في سورية، ناهيك عن التخبط والتناقض والفتور في مواقف الإدارة الأميركية حيال سورية، كلها تدفعنا إلى عدم التفاؤل بجدية واشنطن حقا بالقضاء على التنظيمات المتطرفة، ووقف شلال الدماء السوري المستمر منذ 5 سنوات، في الوقت الراهن على الأقل.
وحتى من قبل فترة الجمود التي تشهدها الأشهر السابقة للانتخابات الأميركية، كان الموقف الأميركي جامداً ومراوحاً في مكانه، وكل ما فعلته أميركا طيلة 5 سنوات من الحرب والموت والدمار هو إطلاق بعض التصريحات الفارغة بين الفينة والأخرى، وإعطاء بعض الوعود لوفود المعارضة السورية، والتي تبين أنها جميعاً مجرد كلام في كلام، ويبدو أن فترة الجمود الانتخابي التي يحذر منها الخبراء كل 4 سنوات، والتي تمتاز فيها أميركا بأن تدير ظهرها للعالم خلالها كي لا تؤثر أي زلة على موقف الناخب الأميركي، يبدو أن هذه الفترة استمرت على حظ السوريين 5 سنوت ونصف.
ماذا إذن؟ ما الذي تريده واشنطن من مشاركة موسكو عسكريا في سورية بعد نجاح هذه الهدنة؟ ومن هم الذين ستقوم القوات الأميركية مع القوات الروسية بالقضاء عليهم هناك؟ وما الجدوى من هذا التعاون الروسي الأميركي الجديد طالما أن موسكو حليفة الأسد لم تغير موقفها إزاءه؟
علمتنا التجربة أن لا أصدقاء حقا في هذا المجتمع الدولي للشعب السوري في ثورته الأسطورية هذه، ولا يجوز القول إن أميركا قد باعتنا: هي لم تشترنا يوما.