قرأت يوما مقولة: "الفوضى تصنع المبدعين، أما المنهج فيصنع الأكاديميين"، ورغم تحفظي على كلمة "الفوضى"، ليس لأنها سيئة في ذاتها بل لأنها أصبحت كذلك، فكثير من الكلمات أصبح معناها مع مرور الوقت سلبيا، ككلمة "بيروقراطية" أو "براجماتية"، وغيرهما كثير.
تلك المقولة صنعت أجنحة صغيرة للخيال، فجعلتني أتساءل عن مصير الروائي العظيم جابرييل ماركيز، لو لم يترك كلية الحقوق ويتفرغ للكتابة، أو عن ليو تولستوي الذي لم يكمل دراسة القانون، لأن طريقة التعليم لم تعجبه في الجامعة، أو حتى باولو كويلو الذي كره الدراسة لدرجة أن دخل المصحة العقلية بسبب عدم حبه للدراسة، وخذل والده الذي كان يريده أن يصبح مهندسا مثله، أو حتى محليا: ماذا لو أكمل جارالله الحميد دراسته وأصبح ناقدا أدبيا مكبلا بسلاسل المنهج؟
والكلام ذاته ينطبق على عدد من مشاهير المال وأصحاب الملايين، فرالف لورين ترك الجامعة بعد سنتين من دراسة إدارة الأعمال، ليتجه إلى التصميم حتى تجاوزت ثروته الثمانية مليارات دولار، وبيل جيتس الذي ترك الدراسة بجامعة هارفارد التي يكون الوصول إليها حلم كثير من الشباب، بل وحتى في السياسة لا يمكن أن يغيب اسم الرئيس الأميركي جونسون الذي لم يكمل تعليمه.
كل هذه المقدمة التي أصبحت أطول من ليل الضرير، تحاول أن تطرح السؤال التالي: هل نحن في حاجة إلى مبدع أم أكاديمي؟
ولماذا تكون الشهادات العلمية هي المقياس عند التقدم لوظيفة ما؟
أتفهم ذلك عندما تكون الوظيفة المطلوبة لأستاذ جامعي، لكنني لا أتفهم عندما تكون الوظيفة بعيدا عن صرامة المنهج، وأظن أن سبب التركيز على المؤهل العلمي يعود إلى كسل من وضع الأنظمة، فمن السهل أن تتعرف على المؤهلات العلمية للشخص، لكن من الصعب معرفة إن كان مبدعا أم لا، وقد مرّ علينا في حياتنا العلمية عشرات الأساتذة الأكاديميين، ومع ذلك نعترف أن المبدعين فيهم كانوا قلة، وعندما نرى أكاديميا مبدعا خلاّقا فإننا نردد: "إنه مبدع بالفعل، لكن للأسف قتلته الأكاديمية"، وأتذكر أن غازي القصيبي وصف من يحصل على شهادة علمية بأنه إنسان صاحب صبر وجلد، وليس أكثر من ذلك، وهذا يعني أننا قد نحتاج لصاحب الدرجة العلمية في سباق المسافات الطويلة أكثر مما نحتاجه في مكان يتطلب اتخاذ قرارات تهم مصلحة الناس!
وفي الختام، عودوا إلى الأسماء في مقدمة المقال، وأضيفوا إليها ما شئتم من المبدعين الذين لم يحصلوا على مؤهل علمي عال، وتخيلوا وظائفهم لو كانوا بيننا الآن، ربما لو حدث ستجدون ماركيز سيكورتي في سوق شعبي يرميه الأطفال بالحجارة، وبيل جيتس منشدا في المهرجانات الصيفية، وسيضطر البقية ربما لشراء شهادات دكتوراه من جامعة كولمبس لتؤهلهم للعمل في الأعمال الخيرية!.